استوقفتني طويلا رائعة  الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة «قصيدته» التي تداولها الناس باهتمام منذ نشرها بالصحف، وعبر وسائل التواصل، واستحقت أن تنال إعجابهم ومعارضة كثيرين لها، فقد حركت عندهم شجون التأمل في رحلة العمر، حينما بدأ قصيدته بلغة متفائلة وهو يقول «يا مرحبا بك يا ثمانين عمري»، فأعادتني إلى تذّكر أبرز الذين توقفوا عند عتبات أعمارهم، وهم بين مفارقات تعكس مشاعرهم مع رحلة السنين، فبينما كان الأمير خالد الفيصل يحفظه الله، يستقبل الثمانين بالترحاب والتفاؤل والأمل، كان زهير بن أبي سُلمى يشكو ثمانينه «سئمت تكاليف الحياة ومن يعش..ثمانين عاما لا أبا لك يسأمِ»، وكم أخذتنا حالة التأمل الطويل مع عتبات العمر، ووقفات الشعراء عندها، وكم أغرقونا معهم في فلسفتهم مع مراحل العمر، وهم بين حنين للشباب والصبا، كأبي العتاهية، عندما تمنى لو عاد به العمر إلى مرحلة الصبا والشباب، فقال «بكيت على الشباب بدمع عيني..فما نفع البكاء ولا النحيبُ /‏ فيا ليت الشباب يعود يوما..فأخبره بما فعل المشيبُ»، وبين من سرّه أن وصل إلى مرحلة الشيب والتقدم في العمر، ولم يستبد به حنين الشباب والصبا، كما فعل أبو العتاهية، وأعني داهية الشعر المتنبي يوم قال «خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبى.. لفارقت شيبي موجع القلب باكيا» ! ومثله إيليا أبي ماضي، عندما نصح صديقا له، بألا يتأسف على صباه الذي مضى، فقال له «قال الصبا ولى فقلت له ابتسم.. لن يرجع الأسف الصبا المتصرما»، ومثلهما بدوي الجبل الذي يُطمئن حبيبته فيقول «أتسألين عن الخمسين ما فعلت..يبلى الشباب ولا تبلى سجاياه /‏ في القلب كنز شباب لا نفاد له..يعطي ويزداد ما ازدادت عطاياه»، وعبدالعزيز خوجة الذي استقبل عقده السبعين مبتسما وهو يقول «إني لقيتك يا سبعون مبتسما..راض بما قد مضى راض بما قسما»، حقيقة لقد حيرنا الشعراء معهم، لكن كم أجد الحقيقة عند ابن أبي حارثة، وهو يقول متحسرا على الصبا والشباب «ولى الشباب فخل العين تنهمل..فقد الشباب بفقد الروح متصل»، فكلنا نشعر بالحنين لأيام الصبا والطفولة، لكن يكفينا التعزي بحقيقة أن رحيل الأيام بلا رجعة، ولعل أبا الغصن الأسدي أوعظ الباكين على شبابهم وأبكاهم يوم أنشد «أتأملْ رجعة الدنيا سفاها..وقد صار الشباب إلى ذهاب/‏ فليت الباكيات بكل أرض..جُمعن لنا فنُحن على الشباب».

 إن التقدم في العمر سُنة من سنن الحياة، والإنسان سيعيش من السنوات ما كتب الله له أن يعيش منها، وفق تقدير الله جلّ في علاه، إلا أن للشعراء فلسفة خاصة مع العمر، وقراءة فيها شجن مع جري السنوات، والتوقف عند عتبات العمر بين الحنين إلى الصبا والشباب الذي كله صولات وجولات، والشكوى من الشيب ومُضي السنوات والكبر، الذي هو الآخر مرحلة لها من الهيبة والوقار والحكمة، وكما قال أبو عمرو بن العلاء «ما بكت العرب شيئا ما بكت الشباب الغارب، وما بلغت به ما يستحقه»، فبعض من الأدباء والمثقفين والشعراء خاصة، حينما بلغوا سنا معينة من العمر، توقفوا عند عتباته، وهم يستذكرون رحلة العمر بكل ما فيها من آلام وآمال، أفراح وأحزان، فمنهم من توقف عند عتبة الأربعين، ومنهم من وقف عند عتبة الخمسين، ومنهم من وقف عند عتبة الستين، ومنهم من وقف عند السبعين كغازي القصيبي «ماذا تريد من السبعين يا رجل..لا أنت أنت ولا أيامك الأولُ»، إلا أن الثمانين كانت هي العتبة الأكثر توقفا عند كثيرين ممن بلغوها من الشعراء والأدباء، وما أكثرهم الذين بكوها وشكوها، وشكوا حالهم مع أوجاعها، وهم يتأملون رحلة العمر الطويل كقول أحدهم «قالوا أنينك طول الليل يقلقنا..فما الذي تشتكي قلت الثمانينا»، ولم يكن عوف بن محلم الشيباني بعيدا عنه وهو يقول «إن الثمانين وبلغّتها.. قد أحوجت سمعي إلى ترجمان»، لكن كم يعجبني وصف ذلك الذي حينما سئل عن حقيقة العمر ومضي السنين، شّبه مراحل العمر بفصول السنة: الصيف، الربيع، الخريف والشتاء، قائلا: إن لكل فصل سمته وظروفه وأجوائه وجماله «فالعمر كما يقول كثيرون ليس سوى مجرد رقم، ولهذا فهو يقاس لدى الكثيرين بحجم المنجزات، وبحجم ما تحقق فيه من سعادة وهناء وسرور ونجاح، كما عبر بذلك سمو الأمير، وجعفر بن دوستويه قال حول هذا المعنى «لي خمس وثمانون سنة..فإذا قدرتها كانت سنة /‏ إن عمر المرء ما قد سره..ليس عمر المرء مرّ الأزمنة».

 ولهذا فخالد الفيصل ابن الفيصل العظيم وهو «يرحّب بالثمانين» بهذه الصورة من التحدي والأمل والتفاؤل والقوة والثبات والعزيمة والإيمان؛ فهو يقدم درسا للأجيال، بمن فيهم من حلوا ضيوفا على الثمانين، من خلال فلسفته الشعرية، وحكمته مع مراحل العمر ومحطاته، بأن عمر الإنسان لا يقاس بعدد السنوات، وإنما بالعمل والمنجزات، بالعطاء والنجاحات، بالانتصار في معارك الحياة ومواجهة الخصوم، بالشجاعة في مواجهة عاديات الدهر وصروف الزمان، وفي التسلح بالإيمان في مواجهة سنة التقدم في العمر، وعبور السنوات، وفي ما يقدمه الشخص لدينه ووطنه وولاة أمره من واجبات ومهام بكل إخلاص، وحقا هذا هو خالد الفيصل، أليس هو القائل من قبل «حاولت سبعيني تهز الثبات..وانتصر صبري على حيلاتها /‏ وراحت السبعين وأحلامي بقت.. فرحة الآمال في بسماتها» وها هو يعيد لنا هنا قوة عزمه، وهو ابن الثمانين بقوله «واليوم لو ثقلت بي الرجل بصري..لي عزم أمشي بي على كل مابي» حفظك الله أميرنا الخالد.