لا يمكن خلق مؤسسة تعليمية تقوم ببناء مجتمع آخر له ثقافة جديدة، ولا يمكن استيراد أفضل كفاءات في التعليم من أي مكان، لخلق تعليم أعلى من مستوى المجتمع. وليست كل مشكلة اجتماعية سببها مشكلات التعليم.

فلو بنينا من خلال التعليم أفضل الكفاءات، فقد تصبح سابقة لمستوى المجتمع والمؤسسات، وعاجزة عن التمكين من فرص العمل المناسبة، ومن احتوائها في الحاضنات الثقافية.

التعليم السعودي، خاصة بعد علاج كثير من أمراضه التي صنعتها التيارات الماضوية، عبر زرع التطرف والانغلاق، إلا أنه حقق كثيرا من الإنجازات في القضاء على الأمية، وفي تأهيل الطلاب لدخول أفضل الجامعات والمؤسسات التعليمية في العالم.

كما أن الجامعات السعودية تمكّنت -طوال عقود- من صنع كفاءات وطنية في مختلف المجالات، رغم إمكان تحقيق ما هو أكبر.

فالقضية هنا ليست في الكمّ والكيف وأشكال القصور، ولكن في الهدف الرئيسي من التعليم، باعتباره مؤسسة واحدة تتولى دور تأهيل الطلاب للمعرفة الأساسية وامتلاك الأخلاقيات العامة.

التحدي الأصعب يكمن في أي مكان بالعالم في إصلاح الثقافة والمجتمع. فمحاولات خلق مزيد من الإصلاحات في مؤسسات التعليم كانت قد استمرت لعقود، عبر مطالب النخب السعودية المثقفة، والتي تعرضت لكبح الجماح وشيطنة دعاتها، ولم تكن لتحدث بعض التغييرات الإيجابية، وتتحقق تلك المطالب في التعليم لولا التغيرات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، مثلما حدث بعد أزمة 11 سبتمبر وما صاحبها من ضغط دولي على المؤسسة التعليمية رغم الحادثة المختلقة، ومنها ما نتج عن التغيرات الكبرى، مثل سقوط الأنظمة الماضوية في المنطقة، وانتشار المعرفة والمعلومات عبر قنوات التواصل بين عامة الناس، مما صعّب من سهولة استقطاب فئات من الناس عبر حشدهم وتحويلهم إلى قطعان من المتوترين الغاضبين المنعزلين عن الواقع، إضافة إلى العامل الاقتصادي في احتواء المواطنين، عبر فرص العمل والنشاطات الثقافية.

إصلاح الثقافة يحدث خلال عدة عوامل: داخلية وخارجية ومادية وثقافية، فهو حراك شامل لا بد أن يحافظ على هويته المحافظة دون أن تتحجر، أو تتصادم مع الهوية الحداثية التي تقود التغيير، وتتكيف مع المتغيرات. فالتعلم الاجتماعي أبلغ تأثيرا من التعليم المؤسسي في المدارس.

أحد نشاطات إثراء الثقافة المحلية، هو ما تقوم به هيئة الترفيه، فهي في جوهرها هيئة ثقافة تتولى دعم نشاطات التواصل بين المجتمع، والمشاركة في بنائه الروحي وتحفيزه على الإبداع في مختلف المجالات، وهو ما يمثل قناة من قنوات التعلم الاجتماعي، إضافة إلى دورها كهيئة اقتصادية تتولى عملية تحويل الترفيه إلى نشاط اقتصادي، يوفر فرص العمل ويدعم النشاطات الاقتصادية الأخرى، مثل السياحة.

دور المثقفين والنخب التنويرية يلعب دورا إستراتيجيا في التأثير على العمل السياسي الذي يمثل القيادة العليا للتغيير، باعتبارهم الأقدر على فهم الماضي وتحليل الحاضر واستشراف المستقبل، ودورهم في بناء الرسائل التي تقود تغيير المجتمع عبر كافة القنوات، وهو مما يمهد لاحقا لإحداث تغيير إيجابي في التعليم، ينعكس من متطلبات الثقافة واحتياجها، وقدرات المجتمع في قبول التغيير.

التعليم لا يستطيع وحده أن يقود الثقافة، والمؤسسة التعليمية لا يمكن تطويرها مع معلمين يمثلون انعكاسا لثقافة متخلفة أو منغلقة.

ومن غير الممكن تطوير المحتوى التعليمي -خاصة في مراحله الأولية- إلى مستويات سابقة لوعي المجتمع، ورغم ذلك إلا أن هذا لا يعزز أو لا يبرر بعض أشكال القصور والنقص في المؤسسات التعليمية المحلية، مثل الحاجة إلى مزيد من نشر مبادئ التفكير النقدي والفلسفي بمختلف تطبيقاته، ونشر ثقافة تطوير الذات والتربية المدنية بكل أشكالها، لتعلّم أشكال العمل المؤسسي والسياسي وفق الضوابط الوطنية، وتعلّم الثقافة القانونية وترسيخها في أخلاقيات الطلاب، مع التعرف على تاريخ العالم الذي يشمل أوروبا والصين باعتبارها من الحضارات الرئيسية للعالم، والتعرف على البعد الحضاري الوطني، باعتبار السعودية وريثة لإحدى الحضارات الرئيسية، مع التخلي عن الماضويات البكائية التاريخية، مثل البكاء على سقوط الأندلس، والتحريض الضمني على التوسع العسكري التقليدي، مع الحاجة إلى مزيد من التعليم الفني والموسيقي الذي يصنع أحد مصادر قوة الثقافة، ورغم ذلك وإذا نظرنا إلى هذا القصور في المؤسسات التعليمية، إلا أن الثقافة نفسها بمختلف قنواتها الحديثة -مثل وسائل الإعلام- قد تمكنت من تعويض هذا النقص على أرض الواقع إلى حد كبير، ولم يمنع من معرفة الناس بكل شيء في عصر الانكشاف المعرفي والذي يؤكد حاجتنا إلى دخول مضمار التفوق الثقافي على كل الصعد، ويؤكد أيضا الحاجة إلى تحديث المحتوى التعليمي، بناء على ما نملكه اليوم من معطيات صنعها الناس خلال النمو التراكمي للثقافة.