«يا ناس يا عسل بياع الفول وصل». هذه الجملة الدارجة بين جماعة الفوّالين، ليست مجرد عبارة عادية يضعها بائع الفول على العربة، بل هي أسلوب تسويقي مبتكر يتقنه بفعالية باعة الفول في العالم العربي.

ومؤكدا بأنك أثناء تجولك في أحد أزقة مدينة القاهرة وأحيائها الشعبية، لا بد أنك مررت بإحدى عربات الفول. فالحارات الشعبية هي المعقل الأساسي لعربات الفول، فهي جزء أصيل من ثقافة الشارع المصري، والفول بطبيعة الحال وجبة رئيسة عند الشعب المصري، وعند بقية الشعوب العربية، فالعرب اليوم هم أكثر شعوب العالم استهلاكا للفول. الفول غنيّ بالبروتينات والفيتامينات والمعادن، ورخيص السعر، ويناسب الفقراء، فأطلقوا عليه اسم «لحم الفقراء» و«كباب الغلابة».

وتشير الدراسات العلمية الحديثة إلى أن الفول أفضل بديل للحوم التي لا يقدر على توفيرها أبناء الطبقة الكادحة، ويساعد على احتمال الجوع، لذلك يسميه المصريون مسمار البطن.

ولأن سوق الفول رائجة، فإن باعته تنافسوا تنافسا محموما على جذب الزبائن، وابتكروا مختلف التكتيكات التسويقية لتحقيق أهدافهم.

فلا شك أن باعة الفول لديهم تطلعات برجوازية تسعى إلى التوسع والانتشار، وقد نجحوا عمليا في إنشاء محلات فخمة لا يرتادها إلا علية القوم، وافتتحوا فروعا في غالب دول العالم، أصبحت مع مرور الوقت شركات متعددة الجنسيات، بل إن شهرة الفول شجّعت كثيرا من أشهر الفنادق العالمية على إدخال الفول ضمن قائمة أطعمتها، وحرصت على استقطاب أشهر الفوالين في أزقة وحارات المدينة، ومنحهم أفضل المزايا مقابل وصفتهم السحرية في إعداد طبق الفول.

ولأننا نحن العرب لا نستغني عن استهلاك الفول، فقد حرص باعة الفول على مواكبة العصر ونبذ الطرق التقليدية في تجارته، لهذا قررنا الانفتاح على الآخر واستقطاب نظرية التسويق الإبداعي «Guerilla Marketing»، وهي نظرية علمية تسويقية حديثة ذات أساليب مبتكرة، تقوم على مبدأ المفاجأة، وهي من التكتيكات التسويقية ذات التكاليف المنخفضة، ومناسبة جدا للأعمال الصغيرة نظرا لأنها غير مكلفة، وذات نتائج مبهرة وسريعة.  النظرية أميركية المنشأ، ولكن بعض باعة الفول أنكروا كونها نظرية أميركية، ونسبوها إلى تراث الفوالين في الحارة الشعبية، متهمين الخواجات بسرقة نظرياتهم العلمية.

وخلال تجولك -عزيزي القارئ- في أحد الأزقة والحارات المكتظة بعربات الفول، ستجد نظرية «Guerilla Marketing» ماثلة أمام عينيك.

فباعة الفول قد تجاوزوا مرحلة النظرية إلى مرحلة التطبيق العملي، فهم خبراء في مجال التسويق، فكل هذه اللافتات والشعارات التي تحيط بهم أثناء بيعهم الفول، والعبارات التي يرددونها مثل: «كل فول وصلي عالرسول» و«مخطرش على بالك يوم تفطر عندي»، أو شاهدت أحد باعة الفول قد وضع صورة ثلاثية الأبعاد لشخصية باتمان وهو يحمل طبق فول.

فكل هذه التكتيكات التسويقية التي تعتمد على عامل المفاجأة وإثارة الاستغراب والاندهاش عند الزبون، تعدّ أساليب علمية حديثة معتمدة على جمع البيانات الإحصائية التي يستخدمها باعة الفول، لتحقيق طموحاتهم الرأسمالية.  «إذا خلص الفول أنا مش مسؤول»، أشهر عبارة متداولة بين جموع الفوالين في العالم العربي، إذ ستجدها ماثلة أمامك أينما حللت في غالب المدن العربية وحتى العالمية، وهي عبارة تحمل دلالات متعددة وعميقة. فإلى جانب المقصد التسويقي، هناك مقصد اقتصادي يحكي أزمة المواطن العربي في حال انقطع عنه خط إنتاج الفول. وبائع الفول هنا يبرئ نفسه من مسؤولية انقطاع الفول، الذي ستنتج عنه حيرة وأزمة غذائية واقتصادية عند مستهلكيه.  هذه الحيرة التي تنتاب مستهلك الفول عندما يكتشف أن عربة الفول التي يرتادها قد نفدت من الفول، هي نفسها الحيرة التي تنتاب مستهلكي النظريات الغربية من العرب، عندما نجد -بين ليلة وضحاها- أن رصيدنا من الاستهلاك قد نفد، فهناك العشرات من رسائل الماجستير والدكتوراه وبحوث الترقية والندوات العلمية والمؤلفات وكراسي البحث متوقفة على ما يقدمه لنا الآخر من نظريات علمية حديثة ومعاصرة.   ويقولون إن الشيخ تشومسكي عندما قرر هجر عالم اللغويات والرحيل إلى عالم السياسة، فإن أنصاره في العالم العربي وقعوا في أزمة استهلاك، وانتابتهم حيرة مشابهة لحيرة مستهلك الفول الذي وجد جرة الفول خالية، وحتى مع كل أساليب التسويق التي جعلت من تشومسكي عالما يوازي مكانة نيوتن، وماكس بلانك، وألفريد نوبل، وأرخميدس، وجاليليو جاليلي، ولكن كل هذا لم يخفف من وطأة الحيرة، فرحيل شيخ الطريقة التوليدية بهذا الشكل المفاجئ، يعني بداهة أن كل نظرياته ومشاريعه العلمية ذهبت في مهب الريح.

أشار أستاذ اللغويات في جامعة ساسكس جيفري سامبسون في كتابه (Liberty and Language»، إلى أن هناك علاقة وثيقة بين مشروع تشومسكي اللغوي فيما يتعلق بفطرية اللغة في الدماغ، وبين أطروحاته في عالم السياسة، وأن تشومسكي السياسي ليس إلا امتدادا لتشومسكي اللغوي، وهذا يفسر هجرته الميمونة لعالم السياسة، حتى تسهل عليه دراسة اللغة داخل أدمغة السياسيين. ويقال -والعهدة على الراوي- إنه قد أخذ أشعة مقطعية لأدمغة الرؤساء الأميركيين الأحياء منهم والأموات، وجمع بيانات إحصائية لكل خطبهم السياسية، وأطلق على مشروعه اللغوي الجديد الممزوج بالسياسة مسمى «لسانيات البطيخ».

إذن، إنتاج الفول لم ينقطع بعد، فما زال للمجد بقية، وأول ثمار مشروع اللسانيات البطيخية المبارك، دراسة عربية في إحدى الجامعات العربية، حملت عنوان «دراسة بطيخية تطبيقية لشعر المعلقات»، ودراسة أخرى حملت عنوان «شعر الزهد في العصر العباسي... دراسة بطيخية معاصرة»، وهي بطبيعة الحال دراسات علمية حديثة، سعى فيها الباحث إلى مواكبة العصر، فجزاه الله عنا خير الجزاء.