شعور غريب انتابني وأنا متجه نحو وسط العوامية، أشبه بشعور العطش المميت في وسط الصحراء، فقد ألقت المناظر التي مررتُ بها، ظلالها الكئيب الذي يَهبُ الروح والنفس اليباس والظمأ، فكم هو ممض أن ترى ترويع الناس وإرهابهم شاخصا في تماثيل جامدة عبارة عن جدران، وسمها الرصاص الغادر، وشكَّلها في صور بشعة ستظل تحكي أن ثمة من وُلد من رحم هذا الوطن، وشبّ في ذراه، وتنعَّم بخيره، عمد إلى شق خاصرته حد الموت.

كانت الأجواء رغم الهواء العليل، والحديث اللطيف، وأنس الصحبة، تشي بكل سواد الدنيا، حتى انفرجت الطرق الضيقة وأفضت إلى ساحة فسيحة كأنها حديقة غنّاء، أو جنة الله في أرضه، ولولا الحياء لركضت فيها جَذِلا كطفل في السابعة، أول ما لامست قدماي أرضياتها الفخمة المصنوعة من الحجر غالي الثمن.

لم أكد أصدق عيني أني أقف في ذات المكان الذي رأيناه في القنوات الفضائية مكانا للقتل والفوضى والخوف والفزع، وكيف أضحى هذا المكان فسيح الأرجاء، الذي يرد الروح إلى مستقرها، جميلا بفخامته، ورائعا بجمال ناسه أهل العوامية الأخيار الطيبين، أهل الكرم والضيافة، والابتسامة التي لا تتعب، ولا تنطفئ، وشتّان بين عوامية الأمس وعوامية اليوم والغد.

هنا العوامية، هنا الوطن، هنا هُزم الإرهاب، في صورة من صوره النكدة، تم طفق البناء والإعمار، فحوَّل أزقة عشوائية تختبئ فيها الجريمة والتطرف والإرهاب، إلى حي يضج بالتراث القطيفي السعودي الأصيل.

و«حي المسورة» الذي يقع في بلدة العوامية بمحافظة القطيف بالمنطقة الشرقية، حي قديم خالٍ من السكان، تم تثمين منازله وتقييمها لتعويض قاطنيها، وقبل أن تبدأ يد الإعمار والبناء، استغلته الفئة المارقة الضالة والمضلة، فبرز اسم الحي بعد مواجهات بين الأمن السعودي وتلك الفئة الضالة، التي اعتدت على سكان المنطقة وعلى رجال الأمن، واستغل الإرهابيون مباني الحي القديمة المهجورة المتداخلة مع منازل المواطنين لتكون ملجأ لهم، و منطلقا لغدرهم، مما أدى إلى سقوط العديد من الضحايا بين قتيل وجريح، وأصبح الحي بؤرة فساد وجريمة يجتمع فيه الإرهابي وتاجر السلاح، ومروج المخدرات، وبات مصدرا لزعزعة الأمن، وجرائم القتل، والخطف، والسطو المسلح.

واجهت الحكومة السعودية هذه الأعمال الفوضوية التي تستهدف أمن مواطني البلدة واستقرار الدولة، بالصبر تارة، وبالحزم تارة، رغبة في عدم توسيع دائرة الضرر للأهالي، مؤكدة الاستمرار في تنفيذ المشروع النموذجي لمصلحة أهالي المنطقة.

كانت الدولة -أيدها الله- مع مواطنيها، ولهم في تلك المواقف العصيبة التي مرت بالعوامية والمسورة تحديدا، فأمّنت لجميع من خرجوا من الحي أو هربوا من الذعر الذي أصابهم وأصابنا، المسكن الآمن بشكل عاجل، فضلا عن تأمين عودتهم إلى منازلهم التي أخليت، بعد عمليات تطهير المنطقة من العناصر الإرهابية، وبالفعل تمت عملية تطهير المسورة، والبدء السريع في عملية تنفيذ المشروع، بمعجزة تحدت الزمن، وتغلبت.

«هذا ليس مِنّة على مواطنينا الشيعة، فالدولة مسؤولة عن أمنهم وسلامهم الاجتماعي وتوفير الحقوق المتوجبة لهم من الدولة»، هذا ما قاله ولي العهد -حفظه الله- حسبما نقله الأستاذ حسن المصطفى عن الأستاذ محمد رضا نصر الله في مقال له على موقع العربية نت، بعنوان: (السعوديون الشيعة والمشاركة ببناء السعودية الجديدة).

إن التوجه الذي ينسجم مع رؤية المملكة 2030، والذي يطمح إلى تأسيس مجتمع منتج، ومجتمع ريادي، يأخذ على عاتقه القيام بالدور التاريخي المنوط بالمملكة الحاضنة للحرمين الشريفين: هو إرساء مفهوم «المواطنة» التي لا تفرق بين المذاهب والأعراق، وإنما الأحقية تكون فيه للكفاءات والانتماء للوطن، والولاء لقيادته، ويكون هذا وحده مقياس الحكم على الإنسان بعيدا عن الطائفية والمذهبية والعنصرية.

إن الشيعة السعوديين اليوم يعيشون مرحلة انتقالية، كما يعيشها باقي مواطني المملكة، لهم دورهم المرموق والمهم في البناء والعمل على تحقيق الرؤية الحلم 2030، خصوصا وقد أزاح سمو ولي العهد -بتوجيهات القائد الأب لكل سعودي خادم الحرمين الشريفين- حجر عثرة عن طريق التطور والتغيير البنّاء المثمر، ألا وهو الخطاب الديني المتشدد، والذي حال بين كثير من الشيعة وبين القيام بمهامهم الوطنية بالشكل الذي يريده الوطن.

نحن السعوديين بلا أي تصنيف كان، ووفقا للهوية الوطنية فحسب، أمامنا فرصة عظيمة للمشاركة الحقيقية في بناء مستقبل السعودية، ومستقبل أبنائنا، يدا بيد، دون الخوف من أي شيء، فمع المراجعات الكبيرة للخطاب الديني السعودي الرسمي، وتقويم الخطاب الديني السعودي غير الرسمي الذي أنتجت الصحوة أدواته، والتي كان من أبرزها تكفير الشيعة، والإسماعيلية، وتبديع الصوفية وتفسيقهم... إلخ، فالشيعة كذلك مطالبون بتطوير خطاب ديني متسامح، يمتلك القدرة على نقد الذات أولا -وقبل كل شيء- ثم ترغيب الجميع وحثهم على التعاون والتشارك في الهم الوطني المشترك لمواجهة الأعداء على أي شكل ونوع.

وبذكر الأعداء، فإن أبرز عدو يواجه المملكة، ويحيك لها الدسائس والمؤامرات بعد تنظيم الحمدين، هو العدو الصفوي المتمثل في إيران، وهذا يجعل المواطن الشيعي السعودي الكريم، أمام فرصة كبيرة وعظيمة، لخدمة الوطن، وتراب هذه الأرض الطيبة، بالتصدي الجاد المخلص، للمطامع التوسعية للسرطان الصفوي في العالم العربي، وتفويت الفرصة على استغلال أي وضع يضر بالوطن، وليس هذا فحسب، بل وتشكيل قوة ناعمة لمد جسور من وئام وصفاء وتعاون مع كافة تشكلات الطيف الشيعي العربي الأصيل، ليقوم وطنهم (السعودية) بدوره الريادي والقيادي للأمة الإسلامية، ولا يخذلون أرضهم وقيادتهم وشركاءهم في الوطن كما خذلهم الحزبيون من أبناء الوطن، عندما ارتموا في أحضان تنظيم الحمدين، والإخونج، والحاكم بأمره العثماني.

يجب أن نتذكر والإخوة من الشيعة، أن العهد السعودي الحاضر خلصنا من قوم حولوا الدين إلى أداة للتفريق بدلا من أن يكون أداة للوحدة، فالدين الحنيف كان وما زال مصدرا لكل فضيلة، ورحمة ولم يكن مصدر بؤس أو قلق أو فرقة.

وأُذكِّر نفسي، كما أذكر كل مُفترِق على أساس طائفي نكد، أن العهد النبوي لم ينشأ على تقسيم وتفرقة، إذ لا يستند أي من مسمى السنة والشيعة إلى أدلة نظرية، وانقضى العهد النبوي وعهد الخلفاء الأربعة ولم يكن لأي من هذه المسميات رصيد معرفي يذكر، ثم بدأت هذه الأسماء بالظهور، وبدأ كل فريق يحشد لنفسه الصواب، وأنا هنا لست في معرض الحديث عن الأهدى سبيلا، والأصوب، وإنما حديثي في الإجابة عن التساؤل العريض في: هل يجوز أن يتحول هذا الخلاف الفكري إلى خلاف، يُقتل ويقاتل من أجله وتسفك الدماء وتهدر الحرمات؟.

أخيرا، ينقل ياقوت الحموي في معجم البلدان (ثانية، 1995، بيروت، دار صادر)، (3/117)، (بتصرف): عن سبب خراب «الري»، وكانت أعظم المدن بعد بغداد، حيث مر بها في عام 671 فوجدها خرابا، فسأل رجلا فقال: دمرتها العصبية الطائفية، حيث كان فيها الشافعية، وهم الأقل، والحنفية، وهم الأكثر، وفيها الشيعة، وهم السواد الأعظم، فوقعت العصبية بين الشيعة والسنة، فهُزمت الشيعة على يد الحنفية والشافعية، ثم وقعت العصبية بين الشافعية والحنفية، وكان النصر للأقلية الشافعية، وبقي في الري الشافعية، فخربت المدينة التي لا يسكنها إلا قلة.