تظل بعض القيادات الإدارية راسخة في أذهاننا بما تركته من أثر ملموس في مجال عملها، ويبقى التعليم الحقيبة الوزارية الشائكة في كل التشكيلات والمهام، نظرا لأهمية التعليم ودوره في التطوير وقيادة حركة النمو والنهضة، ولقد حظيت هذه الوزارة بقيادات بارزة كفؤة تركت بصمات مميزة، لكن بعض المراحل المختلفة في حياة الأمم تحتاج نوعا مختلفا من القيادات أيضا، وهو ما تميزت به الحقبة التي تسنم فيها الدكتور محمد بن أحمد الرشيد -رحمه الله- «وزارة المعارف»، فكان بحقّ ملهما سبق زمانه، ونقل وزارته إلى سياقات التربية والتعليم، وسعى إلى مجد أمته، فأبقى في ذاكرتنا «وراء كل أمة عظيمة تربية عظيمة». باشر مهام وزارته وفي خلده سؤال: تعليمنا إلى أين؟ فأجاب عنه في كتاب يحمل سؤاله، وجعله وثيقة خطة رسمت معالم وزارة التربية والتعليم، ولم يغادر مقعد وزارته إلا وقد نفذها بكل دقة، في فترة وجيزة كان يصفها البعض بالخيال الواسع لمعالي الوزير الذي لا يمكن تحقيقه. حفلت الفترة التي قاد فيها وزارة (المعارف) ثم (التربية والتعليم) بالعديد من القرارات الجسيمة، مما جعلها حقبة مختلفة فصلت كثيرا من التباينات، وقطعت شوطا كبيرا في إنجاز نقلة نوعية مميزة، ما زالت أساسا لكثير من منطلقات الحاضر وامتداد المستقبل في مجالات التعليم المتعددة.

تضمنت رؤيته تحديثات واسعة لكل أركان العملية التعليمية، بدءا بالمقرر الدراسي، ووثائق بناء المناهج، وتطوير المحتوى، وإقرار سياسات التقويم وبرامج التحصيل، وتطوير مهارات التدريس، وتفعيل الإستراتيجيات، وتحسين البيئة الصفية، وتوظيف التقانة وحوسبة النتائج، وإدماج الوسائل المتعددة في طرق التعليم ومهارات التعلّم، وكسر جمود المحتوى النظري بالتوسع في معامل التطبيق المخبرية، ودعمها بالأدوات والإمكانات، وإدخال نظم الحاسب الآلي ضمن مواد التدريس، وتوفير المعامل التطبيقية، ودعم المدارس بكل الاحتياجات اللازمة لتفعيل المستحدثات والمستجدات التي فرضت نفسها بحكم تسارع المعرفة ومزاحمة التقنية كمؤثر فاعل، وشهدت مصادر التعلّم ميلادها الأول لخدمة جوانب التعلّم وإثراء المعرفة، وتوسيع دائرة تناول المقرر، وإتاحة الفرصة للمتعلم للتفكير والبحث في أوعية العلم ومصادر المعرفة ووسائطها المتنوعة في بيئة تكفل له التنوع وتحفزه على التفاعل الإيجابي.

أدرك الرشيد أن الأنشطة المدرسية هي مساحة مهمة لاستثمار الطاقات واكتشاف المواهب، وإدماج المتعلمين في جو التعلّم الممتع، ورعاية قدراتهم وتوجيهها، واحتضان الإبداعات وتنميتها، فكان النشاط المدرسي يسجل حضورا كبيرا وحراكا تنافسيا ثريا، عزز مهارات المقرر الدراسي وطور المهارات القيادية للمتعلمين، ووصلت ثمراته للمنافسة العالمية بحضور مشرّف ومراكز متقدمة.

كل هذا الحراك الفاعل والتثاقف المتنوع مع كافة التجارب الدولية كان يدرك -رحمه الله- ضرورة صهرها في قالب وطني يعزّز هوية الطالب، وينمي قيم المواطنة، فكان ميلاد مقرر التربية الوطنية ضمن مواد التدريس بطبيعتها المحببة الخاصة التي لا تكلف المتعلّم اختبارات أو تقويما يؤثر على مكتسباته من درجات التحصيل. وحينما أدركت القيادة السياسية حجم التباين والفقد والفرق والهدر بين تعليم البنين والبنات، اتخذت قرار الدمج وكلّفت الرشيد بوضع السياسات وضم التركة الكبيرة تحت مظلة واحدة، فكانت العلامة الفارقة في قيادته، يحمل الهم بين رسم ملامح المستقبل وتجسير الهوة بين القطاعين، وبين إقناع المثبطين والمتوجسين، فكان مسؤولا بحق، يعمل ويقنع ويثبت للناس صواب القرار ومصلحته، ويتحمل فجور الخصومات وسيل الاتهامات بصبر وروح غير هيّابة، ونفس وثابة تنشد المعالي والرفعة للوطن وأبنائه، متكئا على إيمانه العميق بأن المسؤولية الجسيمة تتطلب الرفق وحسن المعاملة، وإثبات صدق النوايا في ساحات المدارس وفصول التدريس. لم يترك التربية تلتقط أنفاسها لحظة، فكان يحركها في نفوس روّادها، ويوزع كوامنها في مؤتمراته ولقاءاته وأحاديثه لوسائل الإعلام المختلفة، ولم يسمح للوقت بأن يتحمل الأعذار عن المتقاعسين، فأتبع الإنجاز بالإنجاز، وأثبت أن بوصلة المستحيل مفقودة في وزارته، ولم يكتف بما ملأ به زمنه من حراك التربية وحيوية التعليم، فقد رحل للمستقبل قبل أن يحلّ أوانه، وما أبقاه اليوم خير الشواهد على ذلك المواطن والمعالي.

إن كان الرشيد اعتياديا في تعامله وإنسانيته ورفيع خلقه، فقد كان استثنائيا في إدارته وفكره وحسن قيادته، فهو مثال حي للتربية سلوكا وعملا وثراء وتواصلا، ولم يثنه شغل منصب عن ملامسة ميدانه، فأحبّ أسرة التعليم وأحبوه، وترك تجربته الثرية بين حنايا الزمن في مؤلفه (رحلتي مع الحياة) وبعض هتاف التربية في (حتى لا تذبل قيمنا) وغيرها كثير، وكل من عمل قبله وبعده كانوا حملة خير الرسالات وإرث النبيين، تشهد لهم ميادين الدرس وقاعاته وأجياله، إنما للمرحلة التي عاشها الرشيد استثنائية خاصة فرضتها الظروف، فكان أحد الاستثناءات التي تناسبها. ولأن التعليم هو عنوان القيم الرفيعة، والوفاء خلّة من قيمه، فمن الجميل أن تتشرف (جائزة التميز) لوزارة التعليم باسم (جائزة محمد الرشيد للتعليم) مطرزة بقيم الوفاء لقامة وطنية عملاقة، مجللة بتاج العرفان لترسيخ قيمة البذل والعطاء والإخلاص والمواطنة، وكل العاملين اليوم في مجال التعليم، أجياله ومخرجاته، إما أقرانه أو أعوانه، فمعاني التكريم الحقيقية أن تكون الدورة العاشرة لجائزة التعليم ميلادا للوفاء وإكراما للتعليم ورجالاته المخلصين. فالشعوب تسمو بتقديرها لرموزها وصناع الأثر في مجتمعها.