يعيش العالم اليوم عصر العولمة وثورة الاتصالات الكبرى، التي فتحت المجال لطوفان هائل من البرامج الإعلامية والثقافية الفكرية والعلمية، التي تقف خلفها دول ومنظمات تحاول عن طريق برامجها صياغة الرأي العام الإقليمي والعالمي حسب هواها وحسب مصالحها الذاتية، عن طريق التأثير في قيم وسلوكيات وعادات الأمم والشعوب الأخرى. وأمام هذا الواقع الكوني برزت للوجود أهمية ما يعرف بالتفكير الناقد، الذي يعتبر اليوم من المسائل التربوية التي بدأ التربويون وعلماء النفس يولونها اهتماما كبيرا، فالتفكير الناقد يعد من أهم أنواع التفكير التي تساعد المتعلم على التعرف على الحقائق والمعلومات الصحيحة والمفيدة، الناتجة من التقدم العلمي السريع، حيث أصبح نشر المعلومة وتداولها يتم في دقائق معدودة، مهما كانت هذه المعلومة ومهما كانت الأهداف التي تبطنها. ولذلك أصبحت تنمية مهارة التفكير الناقد أحد الأهداف التربوية الهامة التي تسعى المؤسسات التربوية إلى تحقيقها وترسيخها كمنهج حياة عند المتعلم.

سعت كثير من المؤسسات التربوية في كثير من دول العالم إلى تطوير مناهج الرياضيات والانتقال من مرحلة تدريس الرياضيات التقليدية إلى مرحلة الرياضيات الحديثة، خصوصا إذا عرفنا أن الرياضيات هي لغة العلم، والعلم قد انفصل عن الفلسفة، وخلق له حدودا واضحة تميزه عن الفلسفة، حتى صار عصرنا الحديث هو عصر العلم وتطبيقاته، والعلم يثبت يوما بعد يوما استقلاله التام عن بقية الحقول المعرفية.

 والعلم لا يستطيع أن ينفصل عن الرياضيات، فقد منحت الرياضيات الإنسان المفتاح السحري لما استغلق أمامه من أسرار الطبيعة، فكل هذه القوانين والأرقام والمفاهيم والأشكال الهندسية الموجودة في جوهر الطبيعة، اكتشفها الإنسان بفضل الرياضيات حتى أعطته القوة على السيطرة على الطبيعة وتكييفها، حسب حاجاته ومتطلباته ونزواته نحو تحقيق السيطرة والقوة.

 فكل يوم تتطور تطبيقات الرياضيات الجديدة، في الطبيعة والهندسة، وتزايدت أهمية الدور الذي تلعبه الرياضيات في مجالات الصناعة والنواحي الإدارية والفكر التربوي والعلوم الاجتماعية، وهذا ما جعل كثيرا من المؤسسات التربوية تسعى حثيثا لتطوير مناهج الرياضيات، نظرا لأنها السبيل الأسرع والأنجح نحو تحقيق مهارات التفكير الناقد، فمن خلال الرياضيات يتعلم الطفل، إضافة إلى العمليات الأساسية وهي عمليات الجمع والطرح والضرب والقسمة، عمليات فكرية أخرى مثل الملاحظة والاختبار والتجريد ومحاولة التعميم.

وهنا يتبادر للذهن السؤال التالي: أيهما يسهم بدرجة أكبر في تنمية مهارات التفكير الناقد، الرياضيات الحديثة أم الفلسفة؟ تسهم الرياضيات اليوم بدرجة أكبر من الفلسفة في تنمية القدرة على معرفة الفرضيات والقدرة على التفسير والاستنباط والاستنتاج، باعتبارها مكونات رئيسة من مكونات التفكير الناقد. وما ذكرناه يجعلنا نعيد النظر حول مقرر (مهارات التفكير الناقد والفلسفة)، الذي أقرته وزارة التعليم على طلاب المراحل المدرسية، الذي يوحي بأن هناك علاقة سببية بين التفكير الناقد والفلسفة، أو أن التفكير الناقد هو نتيجة للتفلسف، وهذا يعكس الخلط المعرفي الكبير وسوء الفهم لطبيعة الفلسفة ولطبيعة التفكير الناقد. الفلسفة أصبحت قديمة وغير مواكبة للعصر ومتطلباته العملية، ومنذ بدايات القرن العشرين وأدوار الفلسفة تتقلص وبريقها يخفت وأهميتها تتضاءل، وهي تخطو خطواتها نحو المتحف، بعدما تخلى عنها العلم ووضع القيود حول عالمها. فالعقل العلمي اليوم هو المانح للتفكير الناقد ومجتمع العلم هو مجتمع التسامح والانفتاح الفكري.

 ومادة مثل الرياضيات يمكن أن تأخذ دورا هاما في تهيئة الطلاب بطريقة تكفل لهم التعايش مع مجتمع متطور يزخر بشتى أنواع المشكلات والتحديات، وخصوصا إذا عُرضت بطريقة تتضمن الفروع الحديثة التي ظهرت نتيجة للاتجاهات المعاصرة في تدريس الرياضيات، فالحاجة أصبحت ملحة لتطوير مناهج تدريس الرياضيات عن طريق إعادة النظر في محتوى مادة الرياضيات ووسائل تدريسها.