في هذه الحياة خلقنا لنعيش بهدوء وراحة واتزان بين حقوقنا وواجباتنا قدر ما نستطيع، لا لنشقى وننحدر في الأحزان.

نعم لا تخلو الحياة من منغصات، وهذه سنتها التي خلقها الله عليها، ولكن ليس من الإنصاف في حق أنفسنا تحميلها ما لا تطيق أيا كان هذا الحمل نفسيا أم ماديا أم جسديا.

إننا وبكل أسى أقولها نضع أنفسنا بشكل أو بآخر تحت ضغوط رهيبة بحجة حب العطاء أو الرغبة في الإنجاز وتحقيق الأحلام، متجاهلين الإنهاك الكبير الذي نعرض له أعصابنا وصحتنا التي نخسرها على دفعات عند كل منعطف، وماذا ستعني لنا الدنيا والإنجازات إذا جاءت وقد فقدنا صحتنا وهدوءنا النفسي؟!.

والأسوأ من ذلك كله عادة الكبت التي اعتادها كثيرون، والسكوت عن الحقوق مع التفاني في أداء الواجبات، وتحمل الضغط وراء الضغط حتى يصل المرء إلى مرحلة يفقد فيها السيطرة، وتخور قواه، وتفلت من يده كل خيوط الأمل التي كان يتشبث بها، ويصرخ معلنا استسلامه، وربما حدث ذلك عند مشكلة صغيرة ليست سببا مقنعا في نظر الناس لانهياره واستسلامه، ولكنها بالنسبة له كانت القشة التي قصمت ظهر البعير.

فلماذا نتحمل ما لا نطيق ونكبت رغباتنا وننهمك في التفكير والتخطيط للمستقبل وما بعد المستقبل أحيانا معاندين أنفسنا ومكابرين ومضحين بأغلى ما أوتينا مقابل أشياء سنفقدها، ولن نستمتع بها إذا حصلنا عليها ونحن منهكون متهدمون نفسيا وجسديا، فلماذا اعتدنا على تأجيل الحلول أو استصعابها، ومن ثم ومراكمة مشاكلنا الصحية، والنفسية، والمالية، والاجتماعية، بينما الطريقة المثلى هي مواجهتها وحلها أولا بأول.

إن كثيرا من المشاكل التي قصمت ظهور أصحابها لم تكن هي تحديدا السبب، ولكنها كانت نقطة انفجار لتراكمات كثيرة مع مرور الوقت ولم يكن يعالجها أولا بأول بما يستدعيه الوضع، أو كان يتخطاها بأقصى درجات الضغط، أو كان يعالجها بمشاكل أكبر لجهل أو سوء تخطيط، أو مكابرة، والإنسان في النهاية طاقة محدودة لا يمكن بأي حال أن يصمد عند نفاد طاقته، بل سيرى نفسه فجأة نزيل المستشفيات، ونديم القلق.

وما زلت أذكر حادثة عالقة في ذاكرتي منذ سنين طويلة عن شاب ودود وخلوق تفانى في خدمة إخوته اليتامى وتحمل منهم كثيرا من المشاكل، وفجأة وعند خلاف بسيط مع أخيه سيطر عليه الغضب فقتل أخاه بآلة كان يحملها. لم تكن المشكلة بالتي توصل إلى القتل وخسارة الأخ والنفس، ولكنها كانت القشة التي قصمت ظهره، وأطاحت بباقي صبره، نسأل الله السلامة.

إننا ولا ريب في حياة ملأتنا وملأناها بالصخب، وفي مستحدثات ومتغيرات انتزعت منا الراحة والهدوء، بل وجعلت الواحد منا مثل قنبلة موقوتة قابل للانفجار في أي وقت، وتجنبا لذلك علينا أن نراجع أنفسنا باستمرار، ونعيد برمجة حياتنا، ونخفف عن أنفسنا وطأة المشاكل بمعالجتها أولا بأول، بعقلانية واتزان، وعدم مراكمتها أو حلها بما هو أسوأ منها أو تضخيمها فوق ما تستحق.

إن العمر أغلى بكثير من أن نجعله مسرحا للسباق المحموم على ما قد نحوزه أو لا نحوزه، وأغلى من أن نجعله ساحة للصراعات أيا كانت، أو نعيشه تحصيل حاصل دون غاية تجعله أهنأ وأجمل، ولن ندرك حقيقة ذلك حتى ندرك أن الجانب النفسي من حياتنا هو الأهم والمعول عليه قبل أي جانب آخر، فكل الجوانب الأخرى قائمة عليه، فمتى ما كنا ننعم بسلام داخلي استطعنا تخطي صعوبات الحياة، وبذلنا محاولاتنا فيها دون توتر ولا تراكمات سلبية، كان ذلك مؤشرا على سيرنا في الطريق الصحيح الذي يضمن لنا أن نكون أقوى بكثير، فلا يقصمنا بعير ولا قشة.