عبدالكريم آل أحمد



«فاوضني وأفاوضك» بمعنى -على سبيل المثال- أعرني ثورك إلى جانب ثوري لأحرث بهما حقولي الزراعية، في مقابل أن أعيرك ثوري إلى جانب ثورك لتحرث بهما حقولك أيضا.

هذه العملية في العرف القديم تسمى «المفاوضة»، وهي عملية تبادل منفعة بين طرفين أو أكثر. ولها أشكال أخرى منها التفاوض في حصاد الحقول، فيطلب الشخص من الآخر أن يعمل معه في حصاد حقوله، على أن يرد عليه فوضه بالعمل معه لاحقا.

ويمكن أن يكون التفاوض بين عدة أشخاص، وأحيانا بين النساء والرجال، وتجدر الإشارة إلى أن «الفوض» يعدّ دينا في عنق صاحبه تفرض عليه المروءة أداءه والوفاء به. بل إن الفتاة المخطوبة تحرص على أداء فوضها للرجل المفاوض قبل زواجها ومغادرتها القرية، فالتعاون في العمل بين الرجال والنساء كان في الماضي أمرا طبيعيا، وضرورة ملحة جدا.

هذا عن المفاوضة، أما المعاونة فهي مساعدة الغير دون أي مقابل. كأن تأتي السيول الجارفة فتهدم بعض جدران المزارع، فيطلب المتضرر معاونة جماعته، وهم أبناء قريته فيفزع الجميع لمساعدته في معالجة ما خرب وتهدم.

كما أن المعاونة لها أشكال عدة، لعل أبرزها المعاونة في بناء المنازل، فإذا عزم الرجل على بناء منزل أوْلَمَ لجماعته، وبعد تناول العشاء يُخبرهم برغبته في بناء منزل، وأنه بحاجة إلى مساندتهم، ويُبين لهم أنه «عودٌ من حزمة»، عندها يبارك القوم مشروعه، ويؤكدون وقوفهم إلى جانبه حتى إتمامه.

وتتمثل المعاونة في إمداده بعمال يوميا من الجماعة، ويقتصر دورهم على رصع الخُلب وجلب الحجارة ومناولة الباني، وهؤلاء بالطبع غير العمال الدائمين طوال فترة البناء، فأولئك لهم أجرة معينة من صاحب المنزل، وعادة يكونون أيضا من الجماعة.

وفي معظم الأيام، تتكفل بيوت القرية بالإسهام في إعداد وجبات الغداء أو العشاء للباني وعماله، إذ إن للباني مكانة خاصة ومنزلة رفيعة لدى صاحب المنزل، لكونه العنصر الأساسي لإتقان العمل، إذ يُحضر له كل ليلة طعاما مخصوصا من البر والسمن، ويُهيئ له في المجلس مكانا يليق بمقامه، فيفرش تحته البساط دون سائر العمال! ويُجلِسه في صدر المجلس ويجعله يتكئ على مرفقه الأيسر، كنوع من مظاهر التبجيل له. وبعد اكتمال بناء المنزل والسكن فيه، يقوم صاحبه بدعوة جماعته إلى وليمة أخرى، تعبيرا عن شكره لهم، وعرفانا بجميلهم الذي قدموه.

ومن صور التكافل الاجتماعي في القرية: المخزون الغذائي والإستراتيجي الذي يسمى «العشيرة»، وهي عبارة عن جمعية تعاونية، وبنك احتياطي لجماعة القرية.

إذ يُخرج كل شخص عُشر محصوله من الحبوب ويُودعه في العشيرة، فتُجمع هنالك كمية كبيرة من الحبوب تحسب بمقياس «الأفراق»، والفَرَق الواحد يتكون من 12 صاعا. وتُخزّن العشيرة في مدفن محفور في الصخر، أو في قصبة مخصصة لها.

والغرض من العشيرة الحاجة إليها وقت الأزمات، فيباع منها ويستفاد من ثمنها، أو عندما تقفر الأرض ويحل الجوع، يتم فتح العشيرة وإخراج ما فيها من الحبوب وتقسيمه وتوزيعه بعدالة على بيوت القرية.

ولا يفتح العشيرة سوى رجل واحد يسمى «العشّار»، فهو المشرف عليها والمسؤول عن جمعها. وإذا جاء محصول جديد يتم إخراج المحصول القديم ليُباع في السوق ثم يُخزّن المحصول الجديد مكان القديم. أما ثمن البيع الذي يُقبض فيؤمّن عند العشّار باعتباره مال العشيرة.

والجدير بالذكر، أن مال العشيرة هذا لا يستخدم عادة في إعمار مسجد القرية، لأن هناك حقلا زراعيا يسمى «زرع المسجد»، وهو وقف دائم لمسجد القرية، إذ يُزرع ويُباع حصاده، ثم يذهب ريعه إلى مصلحة المسجد ومتطلباته.

لكن، إذا حل ضيوف على القرية، يجتمع رجالها ويرون فيمن وصل عنده الدور ليقوم بتحضير «الخُطّة» للضيوف. والخُطّة قاعدة آمرة تلزم من يقع عليه الدور من رجال القرية بذبح رأس من الغنم للضيوف الوافدين على القرية.

إذ يقوم شخص يسمى «المُدوّل» بوضع جدولة وترتيب لمن تجب عليه الخُطّة، ومقدار ما عليه منها، ويتم تحديد مقدارها حسب مساحة وعدد الحقول الزراعية التي يملكها الشخص، فبعضهم يحمل خطتين، والبعض الآخر ثلاث خطط، وربما أكثر من ذلك.

الخلاصة، اختر عينة عشوائية من قرى سراة منطقة عسير، ثم انظر إليها بمنظار الماضي، ستجد حتما هذه الأعراف التي ذكرتُ آنفا، وأكثر منها راسخة قديما في ربوع هذه القرى.

فحياة القرية في الماضي لم تكن حياة بربرية غير متحضرة، بل كانت حياة يسودها النظام، ويُسيّرها الانضباط، ويُقوّمها الالتزام، وبطبيعة الحال، فإني أدعو إلى الاسترشاد بتلك الأعراف لا استنساخها.