عندما كنت صغيرة ارتكبت خطأ فادحا عرّض والدي حفظه الله للإحراج مع جيراننا، حيث ظننت بسذاجة الأطفال أن أحدا لن يعرف أنني أنا الفاعلة، لكن اكتشفت عندما عدت للمنزل أن بانتظاري عقابا أليما من والدي، وهي المرة الأولى التي أتعرض فيها لهذا الموقف، حيث اعتدت على تقريع والدتي حفظها الله، أما أبي فلم يحدث أن جمعنا موقف مشابه قبل تلك المرة، لانشغاله الدائم خارج البيت.. إضافة لكونه كثير التغاضي عن الأخطاء الصغيرة والمعتادة.

عشت لحظات غاية في الصعوبة وأنا أنتظر دخول أبي للمنزل، ورغم غضب أمي فقد كان تفكيري منصبا على كيفية التخلص من المواجهة الصعبة مع والدي، كما قام إخوتي في هذه الأثناء بشن حرب نفسية عليّ تركزت في طرح العقوبات المحتملة، والتي كان على رأسها الضرب المبرح، أو الحبس، أو الحرمان من المدرسة التي كنت أحبها بجنون.. طبعا إضافة إلى العقاب اللفظي المؤلم.

عاد والدي بعد حين، وما إن رآني حتى تسمّرت في مكاني وأطرقت خوفا وخجلا، وقلبي الصغير يكاد يغادر قفصي الصدري، ونبضاته تملأ الغرفة بالضجيج، لكن كل شيء صمت عندما بدأ صوت والدي الجهوري العميق يتسلل إلى أذني، بل يقطر كحبات من المطر المتواصل على الحرائق الصغيرة التي اشتعلت في أعماقي فيخمدها واحدة تلو الأخرى:

ـ لماذا فعلتِ ذلك يا فاطمة؟!

اندلق صوته إلى أعماقي القصية كماء بارد.. مسكوب من جرة قديمة.. ثم أضاف بنبرة أكثر هدوءا وعمقا:

ـ لقد عرضتني إلى الإحراج مع الجيران، وخيبتِ ظني بعد أن كنت متأكدا أن ذلك لا يمكن أن يصدر من فتاة مؤدبة ومحترمة مثلك.!

رفعت رأسي وفتحت عينيّ المغمضتين، وشعرت أن قامتي المهزومة تستقيم من جديد.. وفي لحظات انطلق من أعماقي صوت واثق يكبرني بعشرات السنوات:

ـ أعدك ألا أخيب ظنك مرة أخرى يا أبي.

أغمضتُ عينيّ، وسحبت نفسا عميقا.. وعدت للمشهد من جديد، لكن والدي حينها كان يلملم أمتعته مستعدا للخروج إلى العمل من جديد.. وكأنه يقول:

ـ رُفعت الجلسة.

استمرت والدتي في تقريعها، واستمر إخوتي في شن حربهم النفسية، وذلك الموقف العابر ما كان إلا مقدمة صغيرة، وسيعود والدي لاستكمال عقابي فيما بعد.

أما أنا فكنت على قناعة تامة أن الدرس انتهى عند هذا الحد، وغمرتني الطمأنينة، بعد أن تأكدت أن والدي قد اكتفى بقرع هذا الجرس الصغير في ضميري الغض، وترك لي حرية إنهاء هذا الدرس العميق بالطريقة التي أراها مناسبة لما غمرني به من نُبل ولطف.

لا زال درسك يا أبي يتجدد، ولا زلتُ أتفنن في إنهاء هذا الدرس كما يليق بك.. حتى بعد مضي عشرات السنين من رفْع الجلسة..!!



fatema_1440 @