تداولت الأنباء والأوساط السياسية منذ فترة قريبة وحتى الآن، أهمية البحر الأحمر كموقع إستراتيجي مهم يتطلب تحقيق الشراكة الإقليمية لحفظ أمنه واستقراره، لكونه يخدم الدول الشاطئية عليه بشكل مباشر، كما يخدم الدول الإقليمية وجميع دول العالم التي تستخدمه كشريان عبور مائي مختزل يربط بين الشرق والغرب، لنقل مختلف الواردات والصادرات العالمية من وإلى المنطقة، وقد تعرضت صحفنا المحلية لبعض المحاور التي ترتكز حولها أهمية البحر الأحمر كموقع إستراتيجي حساس يمثل أهمية جيوسياسية كبيرة لدول المنطقة، وذلك استنادا لما ينشر حول ذلك من دراسات دولية متخصصة، وما يتم حول الموضوع من اتصالات ومشاورات سياسية حول إنشاء كيان البحر الأحمر وخليج عدن لأهميته في تعزيز الأمن والتنمية في المنطقة.

ولعله من المناسب الإشارة إلى أنه منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمان تمت مناقشتي في رسالة الماجستير في الجغرافيا السياسية والمعنونة «أهمية الموقع الجغرافي للبحر الأحمر ـ المدخل الجنوبي»، وقد اهتمت الدراسة بإبراز أهمية الموقع الإستراتيجي للبحر الأحمر باستعراض أهميته التاريخية على مر العصور، والتي جعلت من دوله المطلة مطمعا دوليا للدول المسيطرة على السياسة الدولية في حقب مختلفة، والتي انتهت بالاستعمار البريطاني للدول الشاطئية عليه باستثناء جزئية صغيرة من دولة الصومال، استحوذت عليها فرنسا وعرفت بالصومال الفرنسي ثم «جيبوتي» بعد الاستقلال، ولينتهي الوضع إلى ما عرف بالحرب الباردة بين الشرق والغرب، والذي مثلت فيه كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق، قطبي القيادة السياسية العالمية، حتى وصل الوضع القائم إلى ما هو عليه الآن من تضارب المصالح الدولية حول المنطقة ودولها لأهميته الجيوسياسية.

وقد تضمنت الدراسة في أهدافها توضيح أهمية الموقع الجغرافي للبحر الأحمر مكانيا وجغرافيا، لكونه يتوسط منطقة إستراتيجية بين قارات العالم القديم في آسيا وإفريقيا وقربه من أوروبا، كما يربط بين أهم المسطحات المائية في النقل التجاري كطريق مختزل يربط بين الشرق والغرب، فكان حلقة وصل بين المحيط الهندي والخليج العربي شرقا، وبين البحر المتوسط والمحيط الأطلسي غربا، وفي ذلك اختزال كبير للمسافة من الشرق إلى أوروبا، بدلا من الدوران حول القارة الإفريقية عبر رأس الرجاء الصالح.

وقد اهتمت الدراسة بتوضيح أهمية الموقع الجغرافي في شكله الطبيعي الطولي، الذي أتاح لسبع دول عربية السيطرة عليه كمنافذ مطلة عليه أو قريبة «الصومال»، والتي أصبحت ثماني دول بعد الاحتلال الإسرائيلي لقرية «أم رشراش» الأردنية وتحويلها إلى ميناء إيلات الحالي، كما تطرقت الدراسة لأهمية الجزر الكثيرة المنتشرة في البحر الأحمر، والتي تتركز بشكل كبير حول المدخل الجنوبي «باب المندب» وتفتقد سبل الحياة والاستثمار والتنمية، والذي جعلها هدفا إستراتيجيا لإسرائيل وإيران، لاستخدامها كقواعد أرضية مهمة ونقاط وثوب تهدد أمن الدخول إلى البحر الأحمر عبر باب المندب، لتحمي طريقها التجاري فيه وتحد من نفوذ وسيطرة الدول المطلة عليه، وذلك عندما كانت محاصرة من جيرانها العرب كدول صاحبة سيادة في المنطقة.

كما ناقشت الدراسة أهمية البحر الأحمر الاقتصادية بما يختزنه من موارد وثروات بترولية ومعدنية وثروة حيوانية وغازات وغيره، وبما يمثله من شريان اقتصادي حيوي لنقل البترول الخليجي من منطقة الخليج، حيث آبار النفط إلى الأسواق العالمية الغربية، علاوة على ما يرد إليه من واردات مختلفة من الدول الغربية كمصدر رئيس لكثير من الواردات لدول المنطقة.

وتعرضت الدراسة بعمق للأهمية الجيوسياسية للبحر الأحمر كمنطقة حيوية، وكدول مستفيدة منه كشريان مائي وكوسيلة اتصال مهمة ما بين الجزء الجنوبي الغربي الآسيوي، والذي تستأثر المملكة العربية السعودية بمعظم ساحله الشرقي تليها اليمن، وبما في ذلك دول الخليج العربية كدول جوار مستفيدة، وبين الساحل الشرقي الإفريقي والذي تستحوذ على معظمه كل من مصر والسودان ثم إريتريا فالصومال، وإذ ركزت الدراسة في هدفها الأساس حول المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، حيث تتقاسم كل من جيبوتي واليمن بوابته الرئيسية التي تتحكم في نقطة العبور من وإلى البحر الأحمر، حيث شكل كل من مضيق باب المندب وقناة السويس عنق الزجاجة للتحكم في ملاحة البحر الأحمر ودوله المطلة عليه.

وقد أوصت الدراسة بأهمية الاهتمام بدول القرن الإفريقي في سياسات مشاركة إقليمية ومشاريع تنموية اقتصادية وسياسية واجتماعية مختلفة، لتحقيق التمكن من السيطرة الإستراتيجية على المنطقة بجميع مقدراتها، والحيلولة دون التدخل الدولي في المنطقة أو تدخل الدول المعادية، كما أوصت بإنشاء مجلس سياسي أو هيئة تشاركية عليا بين الدول المطلة على البحر الأحمر لتنظيم الإشراف عليه وحمايته والتمكن من السيطرة عليه وحفظ أمنه، علاوة على أهمية تعزيز التعاون بين الجامعة العربية ومنظمة الوحدة الإفريقية فيما يخص أمن البحر الأحمر وحرية تأمين الملاحة فيه، مع أهمية مشاركة الدول الخليجية في عمليات الاستثمار والتنمية لمنطقة البحر الأحمر كجزء مهم من مجالها الإستراتيجي ونطاقها الاقتصادي والسياسي.

وتأكيدا لأهمية الموضوع وحساسيته فقد تمت المشاركة ببحث «التدخل الدولي في البحر الأحمر وتهديد الأمن القومي العربي» في المؤتمر الدولي الرابع عشر لقسم الجغرافيا ونظم المعلومات الجغرافية بجامعة الإسكندرية في 2012.

وفي الحقيقة أن الهدف من تلك الإشارة ليس الترويج لدراسة، أو نشر محتوى دراسة علمية مهمة تمت مناقشتها منذ فترة من الزمن، وإنما الهدف التنبيه لأهمية الالتفات لما يجري عندنا من دراسات علمية مهمة، تتعلق بمناقشة أو معالجة شؤوننا الداخلية والخارجية، وتهتم بالتعرض لما نواجهه من تحديات كثيرة وعلى مختلف الأصعدة الوطنية والإقليمية، وذلك يشمل مختلف التخصصات العلمية، خاصة تلك الدراسات المتعلقة بالحصول على درجات علمية لكونها تُطرح بعد حوكمتها ومناقشتها، ولأهمية مضمونها العلمي الذي لا بد أنه اهتم باحتواء معظم الجوانب المهمة التي تخدم الموضوع وتبرزه في صورته العلمية الصحيحة.

للأسف إننا نهتم بالدراسات الأجنبية عن منطقتنا ومواردنا وفي توجيه سياساتنا وإستراتيجياتنا، ونلجأ إلى الاستشارات منهم حول وضعنا الداخلي وتحدياتنا الوطنية، رغم أننا أعلم بواقعها وبأسبابها وطرق معالجتها الصحيحة بما يخدم توجهاتنا الوطنية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فأهل مكة -كما يقول المثل- أدرى بشعابها، خاصة بعد عقود من الزمن أنفقت فيها الدولة على التعليم لتكوين قاعدة بشرية وطنية قادرة على المساهمة في إدارة شؤون البلاد، ووضع الخطط الإستراتيجية والتنموية المختلفة التي نحتاجها، والتي تتطلبها الظروف الراهنة في ظل ما نجده من تحديات دولية وإقليمية مختلفة.