صعق العالم أجمع يوم الجمعة الماضية بجريمة استشهد إثرها 50 مسلما وأصيب 48 آخرين، في إطلاق نار عشوائي استهدف مسجدين بمدينة كرايست تشيرش النيوزيلندية، على يد متطرف يميني أسترالي، وتسمر مئات الملايين أمام شاشات التلفاز وهم يتابعون تفاصيل الجريمة البشعة التي هزت ضمير الإنسانية جمعاء، لأسباب متعددة، أبرزها أن القاتل استهدف مصلين أبرياء تجمعوا لأداء الصلاة، كما أن البلد الذي وقعت فيه الجريمة عرف على مدار تاريخه بالتسامح والتعايش بين كافة مكوناته، دون تفرقة على أي أسس، وهو ما يرفع أسئلة عدة عن السبب في عدم تنفيذ القاتل لجريمته في بلاده أستراليا التي تبدو مسرحا أكثر مثالية لتنفيذ تلك المذبحة، عطفا على حكومتها التي يقودها حزبي يميني متطرف، وكأنه - أي القاتل - أراد من اختيار نيوزيلندا إيصال رسالة للمسلمين بأنه لا ملاذ آمنا لهم، وأن يد الإرهاب سوف تطالهم في أي مكان، إضافة إلى محاولته إحداث فتنة دينية بين سكان ذلك البلد الآمن.

 وأيا كانت أسباب المجرم ودوافعه والرسالة التي أراد إيصالها، فإن الجريمة تحمل دلالات متعددة في مقدمتها أن داء الإسلاموفوبيا الذي تفشى في عدد من الدول الغربية، كنتيجة طبيعية لتصرفات بعض السياسيين الذين لا يتحلون بأي قدر من المسؤولية، بات خطرا يهدد العالم، لا يقل في خطورته عما كان يمثله تنظيما القاعدة وداعش. ونظرة سريعة للبيان الذي أصدره مرتكب المذبحة توضح بجلاء أن الكراهية هي دافعه الأكبر ومحركه الأساسي، فقد جاء مليئا بأوهام عراقة العنصر الأوروبي الأبيض، وخرافات الغزو الديموغرافي الإسلامي لأوروبا، إلى غير ذلك من الترهات. لذلك يتوجب على حكومات الدول الغربية ومؤسسات مجتمعها المدني اتخاذ خطوات جادة وحاسمة للتصدي لذلك الوباء، بمثل حماستها في مطالبة العالمين العربي والإسلامي بمواجهة التيارات الإرهابية، فمن المعلوم أن أي عنف يقابله عنف مضاد. وإذا كانت الدول العربية والإسلامية قد تجاوبت مع تلك الدعوات وقامت غالبيتها بالتصدي لدعوات العنف والتطرف - وقد أحسنت صنيعا بذلك - فإن الكرة باتت الآن في ملعب الدول الغربية للقيام بالدور ذاته، وعدم التساهل في ذلك، حتى لا تمنح المتطرفين من الدواعش وأشباههم الفرصة لتبرير جرائمهم، وتصويرها على أنها دفاع عن الإسلام والمسلمين.

 ومع التسليم بأن الداعمين لتيار الإسلاموفوبيا ومنظريه لا يمثلون غالبية في الدول الغربية، إلا أنه من الضروري التذكير أيضا بأن نسبة المتطرفين وسط المسلمين لا تتجاوز 1 إلى 200 ألف، وعلى الرغم من ذلك فإن هناك دوائر غربية عدة حاولت في مرات متكررة نسب الإرهاب إلى الدين الإسلامي، وتصوير المسلمين على أنهم سفاحون متعطشون للدماء، لكن لأن ديننا الحنيف يأمرنا بالقسط والعدل فإننا لن ننساق وراء تلك المحاولات، ولن نقع في فخ التعميم، والدليل على أن أتباع الإرهابي القاتل، برينتون تارانت، لا يمثلون سوى أقلية ضئيلة في المجتمعات الغربية، وهو ما وضح في ردة الفعل الواسعة التي بدرت بصورة عفوية من كافة أطياف المجتمع النيوزيلندي، التي تسابقت للإعراب عن صدمتها مما حدث، وإدانته بأقوى الألفاظ، ولم تقتصر ردود الأفعال على نيوزيلندا فقط، بل امتدت لتشمل كافة الدول.

 أما على مستوى الداخل السعودي والمحيط العربي والإسلامي فإن من أبرز ما يلفت الانتباه الموقف الفوري الذي عبرت عنه المملكة العربية السعودية بوضوح، وما ظلت تؤكده على الدوام بأن الإرهاب لا دين له ولا وطن، ومطالبتها لكافة عقلاء العالم بإدانة مثل هذه التصرفات التي لا تؤدي إلا لنشر الكراهية وتستجلب ردود أفعال مشابهة بواسطة متطرفين في الجانب الآخر. كذلك كان البيان الذي أصدرته رابطة العالم الإسلامي قويا في محتواه ومضمونه، شاملا وشافيا، وهو يؤكد أن هذه الجريمة تعد تطرفا موازيا لدموية القاعدة وداعش، ودعا البيان إلى التصدي الحازم لظاهرة الإسلاموفوبيا، ومحاسبة من يروجون لها، أيا كانت صفاتهم ومكانتهم، وقد ظل أمين عام الرابطة الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى يطالب خلال جولاته العديدة في الدول الأوروبية والأميركية بوضع حد لانتشار الإسلاموفوبيا، ومعالجة كافة أنواع الكراهية والإقصاء، ومشددا على أن التطرف عملة واحدة لها وجهان: الأول منشأ التطرف، والثاني ردة الفعل المتطرفة تجاهه، فكلاهما يحمل الكراهية والمواجهة. محذرا في ذات الوقت من تحقق رهان الإرهاب بإثارة عاطفة وشعور وكرامة أكثر من مليار ونصف المليار مسلم حول العالم، يُشَكِّلون نسباً كبيرة في البلدان غير الإسلامية، حتى أصبحوا جزءاً من مكونها الوطني المهم، وأن الرهان الأكبر للتطرف يكمن في إثارة حفيظة هذه الجاليات عن طريق تعميم الحكم بالإساءة لدين الإسلام عموماً، دون تفريق بين المتطرفين والمعتدلين.

 وهنا في وجهة نظري مكمن الخطورة، لأن ما يقترفه دعاة الإسلاموفوبيا من جرائم بحق المسلمين، سواء في الغرب أو الشرق، والإساءات التي يوجهها المهووسون للدين الإسلامي ظلت هي الشريان الذي يتغذى عليه الإرهابيون، الذين يحاولون التواري خلف تلك الجرائم ويصورون أفعالهم على أنها مجرد رد فعل لها. كما أن من شأن تكرار الجرائم التي على شاكلة جريمة كرايست تشيرش صب مزيد من الزيت على نار التطرف، واستقطاب مزيد من المتطرفين الذين كانوا حتى بالأمس القريب أسوياء معتدلين يعيشون بسلام مع نظرائهم في الدول غير الإسلامية. لذلك لا أخال أنني سأكون مغاليا إذا قلت إن العالم يقف اليوم أمام مفترق تاريخي، وإن قادته أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما التصدي بحزم لكل أشكال العنف والعنف المضاد، واتخاذ إجراءات صارمة وحاسمة إزاء مروجي الكراهية ودعاة التطرف، وتعزيز مناخ التسامح والتعايش، أو التساهل مع مثل هذه الجرائم التي تنافي الفطرة والعقل، وغض الطرف عمن يدعون لها ويبررونها، وعندها فإن ذاكرة التاريخ لن ترحم ولن تغفر للمتساهلين والمتواطئين والذين لا ينظرون سوى بعين واحدة.