أظهر ما اتصفت به «جائزة الملك فيصل العالمية»، منذ إنشائها وإلى يومنا هذا، أنها جائزة «جليلة»، «رزينة»، «متحفظة»، وأنها أرادت أن تحقق معنى «العالمية» في حقولها المختلفة، فتحقق لها ذلك في «الطب» و«العلوم»، دون «خدمة الإسلام»، و«الدراسات الإسلامية»، و«الأدب العربي»، وكان مما عدّ رأسمالاً لها، أنها سبقت «جائزة نوبل العالمية»، فمنحت غير عالم جائزتها، قبل أن تمنحها تلك الجائزة العجوز، ودلّ هذا على مقدار ما حققته الجائزة «الفيصلية» من ثقة، فكانت، بحق، جائزة وقورا.

وغلب على هذه الجائزة التي بلغت سن الاكتهال أنها لا تمنح إلا لجمهرة من العلماء والباحثين، ممن ارتفعت سنهم، وسأخرج من حديثي هذا جائزتي «الطب» و«العلوم»، فزاد ارتفاع السن من سمة «التحفظ» و«الاحتشام» فيها، ونالها باحثون ما التفتوا، في حياتهم كلها، لشأن من الشؤون، إلا ما اتصل بالدرس والبحث والتحقيق، وما عرفهم الناس إلا وهم مكبون على مخطوط يحقق، أو كتاب يؤلف، فإذا حاز أحدهم جائزة الملك فيصل العالمية، في الأدب العربي أو الدراسات الإسلامية، كان ذلك الفوز وكأنه «تتويج» لرحلة في البحث والتأليف طويلة، فإذا تسلمت الجائزة واختتم الحفل آب الفائز «الشيخ» أو «الشيخة»، بالمال والبراءة إلى وطنه، وعسى كوكبة منهم لم ينعموا بها إلا شيئا قليلا، وأورثوها ذريتهم من بعدهم.

نوهت «جائزة الملك فيصل العالمية» من ذكر أولئك العلماء والباحثين، أما الفائزون بها، فعناهم، كثيرا، أنهم نالوها، وأنها أشعرتهم أن «من يفعل الخير لا يعدم جوازيه»، وأن «العرف» لا يذهب بين الله والناس، وافتخروا، وحق لهم أن يفتخروا، بأن حصلوا على هذه الجائزة الرفيعة، وأنهم صاروا بها «فيصليين»، إذا ما نعت آخرون بـ«النوبليين».

على أنه كأنما أحس القائمون على هذه الجائزة الجليلة شيئا من العتاب، همهم به أدباء ومثقفون وقراء، مفاده أن هذه «الجائزة»، لا شك، ذات قدر كبير، وأنها ليست بالجائزة الهينة اليسيرة، وأنها ذهبت، في الأعم الأغلب إلى من يستحقها، من أولئك «الأشياخ» الذين أغنوا المكتبة في الدراسات الإسلامية والأدب العربي، لكنها أعرضت عن «الأدب الخالص»، أعرضت عن «الشعر» و«الرواية» و«القصة القصيرة» و«المسرح»، فإذا بنا نراها تمنح، في موسم من مواسمها، جائزة في القصة القصيرة لـ«شيخ» من شيوخها الكبار، هو يحيى حقي، وأخرى في «أدب الطفل» لعبدالتواب يوسف، ثم عادت، والعود أحمد، إلى الباحثين والدارسين، وحمد لها أن أولتهم عنايتها، وهم من أولي العلم والفضل.

اليوم، نحن إزاء جائزة «فيصلية» جديدة، أوتي لها من أسباب القوة ما يجعلها أقدر على أن تستهوي الأدباء والمثقفين، وأن تكون تعويضا عادلا عن إعراض «جائزة الملك فيصل العالمية في الأدب العربي» عن «الأدب الخالص»، فجاءت «جائزة عبدالله الفيصل العالمية للشعر العربي»، لتسد ذلك «النقص»، واختصت الشعراء، دون سواهم، بجوائز ثمينة، جديرة بأن تسيل لعاب الشعراء العرب منذ امرئ القيس وحتى أحمد عبدالمعطي حجازي! واستجمعت أسباب القوة، وكان حقيقا أن تستجمعها، لمنزلة الشاعر الأمير عبدالله الفيصل، الذي أطلق اسمه على الجائزة، ولرعاية الأمير خالد الفيصل لها، ولقيمتها المالية العالية، ولأنها جائزة سعودية توجهت همتها نحو العالم، فأذكرتنا هذه «الفيصلية» الجديدة مآثر تلك «الفيصلية» القديمة.

والحق أنني كنت أشفق على «جائزة عبدالله الفيصل العالمية للشعر العربي»، وكنت أسأل: أتستطيع هذه الجائزة الناشئة أن تحدث أثرا في أدبنا العربي الحديث؟ أتراها قادرة على أن تحتفظ بشبابها، فلا تصبح جائزة «عجوزا»، وهي، بعد، في «المهد»؟ وكان أشد ما يقلقني -وأعترف أنه لا يزال يعتريني- أن «تختطف»، وتصبح «دولة»، فلا تمنح إلا لأسماء «مكرورة»، كأنما صار لزاما على أي جائزة أن لا تؤول إلا إليهم، ودونكم تلكم الجوائز من الخليج إلى المحيط، انظروا فيها، وتأملوا الأسماء التي احتازتها، إنها أسماء «الملأ» أنفسهم، وكأنما عقم الأدب العربي وقطع نسله إلا من أولئك الذين أتخموا جوائز وتكريما.

والحمد لله أن «الفيصلية» الجديدة لم تذهب في موسمها الأول إلى واحد من «الملأ»، وأنها لم تصبح «دولة» تمنح لهذا الشاعر «الكبير» في هذا الموسم، فإذا أظلنا موسم لها جديد، عادت فمنحت لشاعر آخر «كبير»، ممن سئمنا «تكرر» فوزهم بالجوائز الأدبية، يستوي في ذلك «السعوديون» و«العرب»، لا فرق هنا أو هناك، فإذا أفلحت «جائزة عبدالله الفيصل العالمية للشعر العربي» في هذا المسعى، فذلك كسب للشعر العربي الحديث، وتميز تخالف فيه الجوائز «الموقوفة» على أولئك «الملأ»، وإن لم تفعل فحسبها أن تكون رقما جديدا يضاف إلى أرقام قديمة، وتضخما ماليا في أرصدة أولئك الشعراء «الكبار».

فإذا تأملت أسماء الفائزين بالجائزة في موسمها الأول، أدركت أن الجائزة ذهبت إلى شعراء «كبار»، وإن لم يكونوا من «الملأ». ولعل فوز محمد عبدالبارئ في فرع الشعر الفصيح، وفوزي خضر في فرع الشعر المسرحي، وكريم العراقي في فرع القصيدة المغناة، أدخل الطمأنينة على قلوب أولئك الذين سئموا «لجان التحكيم» التي يتنقل أعضاؤها من جائزة أدبية إلى أخرى، ولا يعرفون إلا حفنة من الأدباء، تتداول أسماؤهم في غير جائزة عربية، دع عنك «المسارب» و«السراديب» التي لا يحسن التهدي إليها إلا من عرف مفاتيح تلك اللجان.