مما لا شك فيه أن البحث عن كل أو بعض السنن الإلهية، والجهد في إدراك كنهها ومراميها، خير مساعد للبشرية التي تبحث عن بلوغ الطمأنينة والاستقرار، ولا سيما أن المعاناة واضحة من الحملات الشرسة على الحضارة الإسلامية، ودعوى وجود صدام حضاري بين الحضارات المختلفة.

السنن ـ وفق أبحاث المختصين ـ من الناحية الفكرية قسمان: سنن جبرية لا إرادية؛ يشترك فيها الإنسان مع سائر الموجودات، كالولادة والموت مثلا، وسنن إرادية، تدخل تحت قدرة الإنسان، ويمكنه أن يتحكم فيها، وغني عن القول إن سنن التحضر في القرآن الكريم والسنة المطهرة سنن إرادية، وعملية التحضر لا تتم إلا وفق إدراك الإنسان لغاية وجوده في حياته، وكل التغييرات والتحولات والتقلبات الحضارية في حياة الأمم أساسها عوامل داخلية، ولا يمكن أن تتم بشكل مفاجئ أبدا؛ ويبدو هذا واضحا في علم القاضي الشرعي عبدالرحمن بن خلدون، عالم الاجتماع والتاريخ والفيلسوف التونسي المشهور، الذي يعد أول من نظًّر عن التعاقب الدوري للحضارات، ويعتبر سابقا لعصره في وضع سنن قيام الحضارات وسقوطها، من خلال تركيزه على العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأنها عوامل أساسية في نشأة الحضارات وتطورها، من خلال تقسيماته الخمسة لأطوار الحضارات: طور القيام والنشأة، وطور الاستبداد والاستئثار بالسلطة، وطور الفراغ والدعة، وطور الفتور والخنوع والمسالمة، وطور الإسراف والتبذير وإبعاد الناصحين؛ ومن بعده ـ أقصد ابن خلدون ـ جاء فلاسفة آخرون، ساروا على أثره في ذات الموضوع، ومنهم الإيطالي (حامباتستا فيكو)، والألماني (اوزفالد شبينغلر)، والبريطاني (ارنولد توينبي)، والسلسلة الرصينة غير طويلة.

من أكثر المؤلفات الحديثة رصانة في مبحث قيام الحضارات وسقوطها، كتاب (سنن قيام الحضارات وسقوطها قديما وحديثا مقارنة بآراء ابن خلدون) للباحث الرصين الأستاذ عبداللطيف بن محمد بن عبدالعزيز الحميدان، الذي استطاع بجودة بالغة أن يسد نهم من يريد التعرُّف على سنن قيام الدول والحضارات وتطورها، ثم سقوطها في العصرين القديم والحديث، وأن يقدم بوضوح أسباب القوة التي تساعد على استقرار الدول، وحمايتها من الضعف الذي قد يؤدي إلى تفككها وضياعها.

 الكاتب الحميدان ومن خلال كتابه القيم، قدم دراسة تطبيقية تحليلية مقارنة بين الحضارات المختلفة: السومرية والبابلية والإغريقية والفينيقية والفرعونية وروما القديمة والإسلامية والغربية، اعتمد فيها على أكثر من 350 مرجعا، وخلص فيها إلى أمور في غاية الدقة، ومنها ذكره أن ركائز الحضارة الإسلامية الأولى تمثلت في (الشورى) و(العدل) و(المساواة) و(الحرية)، وأن أحد أسباب انهيار الأمم والحضارات هو استغلال الإنسان للإنسان.. كل الشكر للمؤلف القدير على مؤلفه العلمي الدقيق، الذي وضع فيه للمهتمين والدارسين خارطة طريق للقيام الحضاري الإسلامي الجديد، مع مقترحات لاستشراف السنن المعاصرة لقيام الحضارات وسقوطها؛ من شأنها أن تساهم في بعث الحضارة الإسلامية من جديد، وأن تعيد للعالم مبادئ وتعاليم وأوامر ونواهي الحضارة الإسلامية، وقيمها الروحية والأخلاقية في النفوس، وتؤكد أن الحضارات تقوم على الوعي والإخلاص، لا الخيانة أو الفساد.