كيف يخرج الكاتب من مستنقع المغالطات التي يصطنعها بعض أرباب الإعلام ليوقعونا في وحل مغالطاتهم فتضيع دماء الصحافة الراقية وسط صديد الصحافة الصفراء؟ بعوامل ذاتية تنبع من الكاتب والصحفي ورئيس التحرير، وعوامل خارجية تنبع من التوجهات السامية في العمل السياسي لأي دولة في العالم، فعنترة العبسي لن يكون فارس بني عبس أبدا ما دام يرى في ذاته العبودية مكبلة بين الحلب والصر، ولن يكون لبني عبس فرسان دون إطلاق العنان لعنترة وأمثاله ليخوضوا بكل حرية تفاصيل الكر والفر، كما يليق بالأحرار في ميادين بيض الصفائح، ومثله تماما واقع الفروسية في ميادين سود الصحائف، في كل صحف العالم.

جحدر في حرب البسوس لن يكون شيئا مذكورا في ميزان القوى، مهما سافر وتعلم من فنون القتال، وأطال شعر رأسه ولحيته وشاربه، فكيف بميدان الإعلام وقد اكتسحه أحفاد جحدر محلوقي الشوارب واللحى تظن نفسها شيئا مذكورا، لتتحقق في هؤلاء الجحادر عبارة فلسفية تقول (الذكاء وحده لا يكفي، الرهان دائما على الطبع الأصيل).

تتشابه في عالم الطير الحدأة والصقر، ويا لبؤس الزمن الذي يفتقد فيه قدامى رجال البيزرة العارفون، فترى غير العارفين وقد وضعوا الحدأة مكان الصقر، وترى الصقر مشويا على سفودهم، ينشدون على رماد نارهم قصائد الأسلاف الأماجد، أسلاف تمنطقوا الحلم والكبرياء السامي إلى أقصى مدى، فإذا بطشوا كانوا كالموت البارد لا ترى فيهم نقمة أو ضغينة، بل ترى فيهم بطش الضرورة فقط، يصيدون من الطرائد ما يلزمهم فقط، يحملون بداخلهم شرف الفروسية وحرمة الصيد، ولو كان مَصِيداً، لكن مجد الأسلاف ربما ضيعه الأحفاد، وغرهم من المجد نارهم الموقدة، عجاجها يغطي عنهم رائحة صيدهم الجائر وقد فاح جيفة نتنة في مضاربهم.

جاءت رؤية 2030 كمهرة عربية أصيلة، تتبختر وفي بخترتها ارتبك من لا يملك سوى خيول العربات الأعجمية، وانقسم الناس في هذه المهرة بين راغب في سقيها السم لطبع سقيم أخذه من أمه الأرملة السوداء -هي أنثى عنكبوت سامة تأكل شريكها بعد الإنجاب لتغذي أبناءها- هذه الأرملة السوداء المسماة (الصحوة) تغذي أبناءها بخيرات الوطن وتملؤهم بالكراهية الشديدة له، فيرون في خيل العجم من بقايا السلاجقة ما لا يرونه في خيل العرب من قيس وتميم، وبين خائف من هذه المهرة العربية الفاتنة وخائف عليها، فخائف منها لأنه لم يشعر يوما بأنه أهل لتلك الخيل العربية الأصيلة، لأنه ولد محروما منها، وخائفا عليها لأنه مشتاق حد الشفقة لكسب الرهان بها لما يراه فيها من جموح المنتصرين.

لكل الدول صفحاتها الخاصة في مسيرة التقدم والنماء، وأكثر ما يشد في تجارب التنمية ما حكاه هانس روسلينج في كتابه (الإلمام بالحقيقة) عندما عرض رسومه البيانية التي تتنبأ بنهاية الفقر المدقع في إفريقيا السوداء خلال عقدين من الزمن، وكانت صدمته من تعليق رئيسة الاتحاد الإفريقي (نكوسازانا دلاميني ـــ زوما) إذ قامت وشكرته على رسومه البيانية وتفاؤله، لكنها قالت: أنت لا تملك أي رؤية، لقد تحدثت عن استئصال الفقر المدقع، وهذا بداية ولكنك توقفت هناك، هل تظن أن الإفريقيين سيستقرون بالتخلص من الفقر المدقع وسيكونون سعداء بالعيش في فقر عادي فقط، وقلت إنك ترجو أن يأتي أحفادك إلى إفريقيا كسياح ويسافروا في القطارات السريعة الجديدة التي نخطط لبنائها، أي نوع من الرؤى هذا؟ إنها نفس الرؤية الأوروبية القديمة (الكولونيالية)، ثم نظرت في عيني مؤلف الكتاب مباشرة، ولأكملت قولها: (إنهم أحفادي الذين سيذهبون لزيارة قارتك ويسافرون في قطاراتكم السريعة ويزورون ذلك الفندق الجليدي الخلاب الذي سمعت أنه لديكم في شمال السويد، سيستغرق الأمر زمنا طويلا، نحن نعرف ذلك، سيتطلب الأمر كثيرا من القرارات الحكيمة والاستثمارات الكبيرة، ولكن رؤيتي للخمسين سنة القادمة هي أن الإفريقيين سيكونون سياحا مرحبا بهم في أوروبا وليس لاجئين غير مرغوب بهم)، وقد أثار إعجابي هذا المزيج من الاعتزاز بالذات رغم الفقر المدقع، مع القدرة على الانفتاح العالمي والرغبة في المشاركة الفاعلة بروح الندية الأخوية، وليس العداوة البغيضة تجاه الوطن والعالم، التي ورثها البعض من (الأرملة السوداء المسماة الصحوة)، فنحن لسنا بعض دول إفريقيا، بل نحن من دول العشرين، وكل ما نراه من معطيات يدعو للتفاؤل، وما عدا ذلك مستنقع من المغالطات ينجر بعضنا إليه حميَّةً في غير محلها، والبعض الآخر مجرد جحدر جديد يبحث عن حرب بسوس إعلامية، فترى فضاء السايبر وقد امتلأ بالجحادر يرشقون الصقور الحرة كما يرشقون الرخم، ولا فرق عندهم ما دام رجال البيزرة غائبين، عن عائشة، رضي الله عنها: أنها قالت: استأذن رجل على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: «ائذنوا له، بئس أخو العشيرة، أو ابن العشيرة، فلما دخل ألان له الكلام»، قلت: يا رسول الله، قلت الذي قلت، ثم ألنت له الكلام، قال: «أي عائشة، إن شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه»، رواه البخاري ومسلم.