في يوم الأم يجدر بنا أن نتذكر أمهاتنا المخضرمات، أمهات القرى والأرياف في زمن ليس منا ببعيد، قد لا يتجاوز الأربعة والخمسة عقود.

لقد كانت الحياة في ذلك الزمن مرتبطة بمنطق القوة والشدة والصلابة والجَلَد، وهو الذي يمتاز به الذكر في بنائه الجسماني، غير أن الأنثى في تلك الأزمنة لديها من القوة والجَلَد الشيء الكثير.

صحيح أنها ليست بقوة الفتى في زمانها لكنها أضعاف قوة الفتى في زماننا، فضلا عن فتاة اليوم - الهزيلة - ولا مقارنة بينهما البتة، فلو جمعت فتاة من تلك الحقبة أمام بضعة شبان من هذا الزمن أو - لنقل - أمام مصارع محترف اليوم لخطفت منه بطولة كأس العالم في المصارعة!

هذا الأمر لا يعود لمنطق البنيان الرجولي أو الأنثوي بل يعود لممارسة فتاة القرية للأعمال الشاقة اليومية التي تكسبها قوة بدنية وقوة شكيمة وبالتالي قوة ذهنية لارتباط العقل السليم بالجسم السليم، على الغالب.

الأمهات المخضرمات عشن أزمنة شديدة المراس، فلا كهرباء موصلة للبيوت، ولا شبكة مياه ولا مخابز أو مطاعم، وبالتالي فهي «الطاقة المتجددة» التي تجلب الحطب وتضرم النار في الغداة والعشي، وتسقي الماء من الآبار والعيون، وترعى الماشية وتعلف الدواب وتشارك في الحرث والصرم، وهي التي تغسل بلا غسالة وتطحن بلا طاحون - بالرحى اليدوي ـ وتحلب البقر والغنم وتخض حليبهما حتى يختض جسدها، ثم تخبز وتعرك وقد تذبح وتسلخ وتطبخ الذبيحة بمفردها.

وفي خضم تعدادنا لمهام المرأة المخضرمة لا ننسى أعمالها الأنثوية المعتادة فهي الحامل والمرضع والمطببة للمرضى والمشرفة على شؤون البيت وترتيبه ونظافته وخياطة ملابس أهل البيت، وحياكة الفرش والمخدات، بالإبرة واليد المجردة في ظل غياب مكائن الخياطة أيضا.

وبرغم أن طباع المرأة قد تختلف أثناء الفترة الشهرية ويتأرجح مزاجها وقد تصاب بارتفاع الحرارة والتوتر أو الكآبة والعصبية، إلا أن تلك الأمور لا تعني للرجل شيئا - آنذاك - لغياب الوعي والمعرفة بهذه الأمور، وبالتالي فإن المرأة عليها أن تتغلب على تلك الظروف وتتحامل على تلك المشاعر السلبية، لأن لا أحد غيرها يقوم بأعمالها اليومية المنزلية وغير المنزلية.

فلو اعتذرت المرأة عن المرعى فكيف تعتذر عن أعمال الفلاحة؟ وكيف تعتذر عن جلب الماء؟ وكيف تعتذر عن الاحتطاب؟ وكيف تعتذر عن حلب البهائم؟ وكيف تعتذر عن طحن الحبوب؟ وكيف تعتذر عن العجن؟ وكيف تعتذر عن «التنور»؟ وكيف تعتذر عن تطبيب المريض؟ وكيف تعتذر عن حاجات الأطفال؟ وكيف تعتذر عن تنظيف البيت؟ وكيف تعتذر عن وعن وعن..؟

وبرغم هذه الأعمال الشاقة والمضاعفة للمرأة والفتاة سابقا إلا أن الشاب يظل مصدر اعتزاز واعتداد وشدة وقوة، ومؤازرة لوالده وأعمامه وأبناء عمومته وأخواله وعموم قبيلته، بعكس الفتاة التي ليس لها تلك المزايا الذكورية، علاوة على المفهوم المتوارث، أن الابن لك (أيها الأب) بينما البنت للزوج. فالأهل ربما يربون ابنتهم على مضض لأنهم يرون أن مصيرها ليس لهم بل لبيت زوجها وعشيرته في القريب العاجل.

ذلك اليوم، قد يكون في ربيعها الثالث عشر أو الرابع عشر وربما السادس عشر والتي لن تتأخر عنه بتاتا، حتى تدعهم إلى حيث شؤون زوجها وأولاده وحلاله وبلاده، وبالتالي فهي تنتقل من أسرة مؤقتة لأسرة دائمة وتصبح من ضمن أفراد تلك الأسرة، ويقتصر عملها على خدمة هذه الأسرة بخلاف الابن فهو وزير أبيه منذ ولادته إلى وفاته، لكونه رجلا حرا طليقا، بينما المرأة تحت إمرة أبيها - بصفة مؤقتة - ثم إمرة زوجها بصفة دائمة، ثم أولادها الذكور وأعمام أولادها فيما لو توفي زوجها.

وأدع لشريف خيال القارئ الكريم المقارنة بين أمهات اليوم وأمهات الأمس المنسيات اللاتي لم يحظين برفاهية ودلال اليوم، ولا يعرفن يوما للأم يتغنى به أفراد الأسرة الدولية.