منذ «اتفاقية كامب ديفيد»، شكّلت مصر حجر الزاوية للسياسة الأمنية الإقليمية الأميركية، ولكن روسيا قامت أيضا بتطوير العلاقات مع مصر بطرق متعددة في السنوات الأخيرة في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية، من خلال استغلال تدهور العلاقات المصرية مع إدارة أوباما. وفي غضون ذلك يبدو أن القاهرة مهتمة فعلا بالتنويع وعدم الاكتفاء بالولايات المتحدة، ولا ينبغي أن يُهمِل واضعو السياسات احتمال التوجّه نحو روسيا. وتستمر التجارة الثنائية في النمو، وتعزز المنطقة الصناعية الاقتصادية التي أُنجزت أخيرا مصالح موسكو السياسية في مصر بشكل متزايد. ووقع البلَدان اتفاقا يسمح لموسكو ببناء أول محطة للطاقة النووية في مصر، ونظّما مناورات بحرية مشتركة وتدريبات عسكرية أوسع نطاقا، وازداد اعتماد مصر على واردات الأسلحة الروسية لتزويد جهازها العسكري والدفاعي. وفي هذا السياق، أصبح موقف موسكو بشأن الرئيس السوري بشّار الأسد يحظى بقبول مصر، ورفضت القاهرة في العام الماضي طلبا أميركيا بإرسال قوات مصرية إلى سورية.

وتنشط موسكو في ليبيا. وتميل أكثر نحو التعاون مع خليفة حفتر، قائد الجيش الليبي الذي يسيطر على شرق ليبيا الغني بالنفط، ولكن بوتين بنى أيضا علاقات قوية مع حكومة السرّاج كجزء من نهج «الصداقة مع الجميع» الذي يعتمده بوتين في المنطقة. وفي غضون ذلك، لا تزال أميركا غائبة إلى حد كبير في ليبيا. لذلك تحتل روسيا موقعا مثاليا لممارسة النفوذ هناك. وفي هذا السياق، أفاد الجنرال توماس د. والدهاوزر من فيلق مشاة البحرية الأميركية في شهادته (أمام لجنة مجلس الشيوخ الأميركي للخدمات المسلحة) في فبراير الماضي، بأن موسكو تسعى إلى إبرام عقود اقتصادية وعسكرية والوصول إلى شاطئ البحر المتوسط. ويزيد هذا المسعى من إمكانية وصولها إلى الحدود الجنوبية لأوروبا، وهو أمر بالغ الأهمية للتأثير في مسألة اللاجئين في مختلف أنحاء أوروبا. ووفقا للمفوضية الأوروبية تشكّل ليبيا «نقطة الانطلاق لـ90% من أولئك الذين يسعون للسفر إلى أوروبا.

ولطالما بقيت الجزائر في معسكر موسكو الذي يضم أقرب الحلفاء الإقليميين. فمنذ 2001 تعاون البلدان بشكل أساسي في القطاع العسكري. وفي 2006 ألغى بوتين دينا إلى موسكو قيمته 4.7 مليارات دولار يعود إلى الحقبة السوفيتية، ووقّع اتفاق أسلحة بقيمة 7.5 مليارات دولار شمل برنامج تحديث وتدريب عسكريين. واستمرت موسكو على مر السنين في بيع الأسلحة إلى الجزائر، واتسع نطاق التعاون العسكري في 2016 ليشمل تبادل المعلومات الاستخباراتية حول الجماعات الإرهابية في شمال أفريقيا. وتقرّبت تونس والمغرب، الحليفتان التقليديتان لأميركا، من موسكو في السنوات الأخيرة. ففي تونس، يتجلّى نفوذ موسكو بشكل خاص في قطاع السياحة الذي يُعد حيويّاً لاقتصاد البلاد، والذي انتعش ببطء بعد هجوم سوسة عام 2015 الذي أسفر عن مقتل 38 سائحا أجنبيا. وبالفعل، من المألوف جدا سماع أصحاب المتاجر التونسية يتحدثون باللغة الروسية مع الزبائن.

وفي 2016، زار ملك المغرب محمد السادس موسكو للمرة الأولى منذ 2002، ووقّع اتفاقات لتحسين العلاقات الاقتصادية. وبدأت موسكو دعم برنامج الطاقة النووية المغربي.

لا تزال ليبيا المرشح الأساسي لخطوة موسكو الإستراتيجية التالية في شمال أفريقيا. وتشمل البلاد بحدّ ذاتها أولويات متعددة للسياسة الخارجية لموسكو، فهي سبيل الوصول إلى أسواق النفط والأسلحة، والوصول إلى البحر المتوسط، والضغط الإضافي على أوروبا من خلال التحكم بتدفق اللاجئين. كما تُعد مصر وليبيا حيويّتين من الناحية الإستراتيجية لأنهما تتيحان إمكانية الوصول إلى المنطقة بأكملها. وبذلك تشكّلان المدخل المثالي لاكتساب النفوذ في أوروبا، ومعبراً للوصول إلى عمق أفريقيا، علما أن موسكو تتمتع بالفعل بنفوذ كبير في مصر، وبعد مصر وليبيا، يثير نفوذ موسكو في المغرب قلقا أيضا، إذ يعتبر أهم حليف إقليمي لأميركا بعد مصر.

ومؤخرا، أشار أوليغ أوزيروف، نائب مدير لشؤون أفريقيا في وزارة الخارجية الروسية وسفير روسيا لدى السعودية، إلى أن بلدانا أفريقية طلبت مساعدة روسية بعد ملاحظة «نجاح روسيا في عمليات مكافحة الإرهاب في سورية». ويُظهر تعليقه التأثيرات البعيدة المدى لعمليات موسكو في سورية. ويتمثل الخطر السياسي الناتج عن تنامي نفوذ موسكو في الفقدان المستمر للمصداقية الأميركية، والغربية بشكل أكثر شمولا، في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. أما الخطر الأمني بالنسبة للمنطقة فيتمثل بعجز موسكو في النهاية عن إرساء الأمن الحقيقي وحل النزاع في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وعدم رغبتها في ذلك. وتتحدث موسكو عن السلام والاستقرار ولكنها تستفيد من النزاع المتدني المستوى. فتسعى عبر بناء العلاقات مع كافة الأطراف أن تكون الحكَم النهائي، حيث تقوم بإدارة النزاع بدلا من حله، وتبيع الأسلحة إلى كافة الجهات.

ويولّد تنامي النفوذ الروسي في شمال أفريقيا مخاطر سياسية وأمنية لأوروبا، حيث تستعد روسيا لاكتساب مزيد من التأثير فيها. ويفتح هذا التنامي أيضا مزيدا من الأبواب أمام النفوذ الروسي في الشرق الأوسط، والتوسع الروسي داخل أفريقيا، في حين ستؤدي لا مبالاة موسكو إلى تعزيز النزعات المناهضة للديمقراطية بدلا من تشجيع الإصلاح.


آنا بورشفسكايا

  * متخصصة في السياسة الروسية تجاه الشرق الأوسط

* موقع «آتلنتيك كوميونيتي» (المجتمع الأطلسي)