قبل عدة أيام مرت ذكرى مضيّ 40 عاما على توقيع? معاهدة السلام بين مصر و?إسرائيل في عام 1979 بالعاصمة الأميركية واشنطن، وما زالت سارية إلى يومنا هذا.

وقصة هذه المعاهدة دوّنها الصحفي الفرنسي (المصري المولد) ?روبير سوليه في كتابه «السادات»، الذي اعتمد فيه على المنهج التاريخي، من خلال إطار مرجعي تناول فيه المراجع المنحازة للسادات، والمضادة له.

وقد أكد روبير سوليه أن الرئيس السادات كثيرا ما صُوِّر على أنه مقامر، لكنه لم يكن كذلك، إذ لم تكن تصرفاته وقراراته نتيجة انفعالات آنية مفاجئة، بل كانت نتيجة حسابات طويلة، إذ كان قبل اتخاذه أي قرار مهم أو مصيري يعتزل في مكان قصي في استراحته لفترة معينة ثم يتخذ القرار، إلا أنه كان يحيط أفكاره وقراراته بسياج من السريّة، وعندما يعلن عنها يتعمّد إثارة المفاجأة لدى المتلقي.

وكانت أولى تلك المفاجآت قد حدثت ‏في مايو 1971 حين نجح بتسديد «ضربة معلّم» إلى خصومه السياسيين الباقين من نظام سلفه الذين تآمروا عليه وكانوا يتحكمون بمفاصل السلطة الأساسية في مصر، ويشير (سوليه) إلى أن المصريين صاروا ينظرون إلى رئيسهم بنظرة مختلفة، فبعد أن وصفه الرئيس جمال عبدالناصر بـ«الحمار»، وصفه الكاتب نجيب محفوظ بعد هذه المفاجأة بـ«المحنك الداهية».

ويبدو أن فكرة «السلام» كانت تراود السادات منذ توليه مقاليد السلطة، فقد ألمح إلى ذلك خلال ذكرى نكبة 67، حيث أكد أنه لن يسمح بمرور العام دون أن يقرر حلّاً، سواء بالسلم أو بالحرب، ولو لزم الأمر التضحية بمليون إنسان! ‏وحين قرر الحرب، اعتمد السادات أسلوب التعمية من خلال أمور عدة أولها طرده الخبراء السوفييت، بما فُسر على أنه تخليه عن الخيار العسكري، وبهذه الطريقة وجد السادات أنه كلما زادت تهديداته وتلويحاته بالحرب قلّ أخذ ذلك على محمل الجدّ من الجميع، رغم قوله غير مرة «العودة إلى الحرب أمر حتمي والبلد كله مستنفر للغاية».

ورغم الانتصار الذي حققه السادات في حرب أكتوبر، يرى (سوليه) أن السادات فعل ما فعله سلفه الفرعون المصري رمسيس الثاني الذي أمضى كل عهده محتفلا بنصف هزيمة أمام الحيثيين في قادش، إذ كانت مساحة الأرض المصرية التي استعيدت على الضفة الشرقية لقناة السويس أقل من المساحة المفقودة على الضفة الغربية للقناة، ويذكر (سوليه) أن وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر قد نعت السادات بـ«المجنون» أمام معاونيه لأنه شن حربا على إسرائيل، لكن كيسنجر أصبح فيما بعد «مأخوذا» ببراعة السادات ومعترفا بخطئه حين وصفه بـ«البهلول»، حيث أصبح يعتبره أحد الزعماء الاستثنائيين بما يملكه من الشجاعة وبُعد النظر.

ويشير المؤلف إلى أمر مهم يفسر سعي السادات إلى إبرام معاهدة السلام منفردا من دون السوريين والفلسطينيين، وهو أن الهاجس الوحيد الذي كان يستبدّ بالسادات هو استرجاع سيناء! ويفسّر ذلك بأنه ابن ثقافة القرية، فهو -كفلّاح- كان يرغب في وضع حدٍّ لتاريخ من الثأر، لذلك ذهب إلى عدوّه باسطاً عمامته بحجم كفن على ذراعه، فإذا ما فُتح الباب فيمكن للخلاف أن يحل فورا، وإذا ما أُوصد الباب في وجهه فلن يبقى أمامه إلا الانتحار.

وفي عام 1977 اقترحت الولايات المتحدة -بالتنسيق مع الاتحاد السوفييتي- عقد مؤتمر دولي للسلام الشامل في جنيف بين العرب وإسرائيل، إلا أنه يؤكد أن السادات لم يقدم على الخطوة لأنه لم يكن يثق بالسوريين ولا بالفلسطينيين المدعوين إلى المؤتمر، وكان يخشى المساومات التي لا تنتهي، والتي لا تسمح له باسترجاع سيناء.

ولذلك اختار السادات أن يختبر الإرادة الشعبية، فألقى خطابا في مجلس الشعب في نوفمبر 1977 بحضور ياسر عرفات أكد فيه بحماس أنه على استعداد للذهاب إلى آخر العالم، ومستعد للذهاب إلى إسرائيل في عقر دارها، بل إلى الكنيست نفسه، وفي 19 نوفمبر 1977 فاجأ السادات العالم بزيارته إسرائيل، واستقبل استقبالا رسميا، ويذكر روبير سوليه أنه خلال مراسم الوداع في مطار بن غوريون قال مناحيم بيغين «سيدي الرئيس سوف نتوصل إلى السلام» فأجابه السادات «أنا واثق من ذلك».

وفي العام نفسه قُرر عقد مفاوضات «كامب ديفيد» بين الثلاثي (كارتر، السادات، بيغين) وقدمت الـCIA دراسات نفسية وسلوكية لمحاوري الرئيس الأميركي، مؤكدة على أن السادات «يعتبر نفسه» مخططا إستراتيجيا كبيرا، ولذلك هو مستعد لتقديم تنازلات تكتيكية إذا اقتنع ببلوغ أهدافه العامة، وقد أسرّ السادات إلى الرئيس الأميركي جيمي كارتر بأنه لم يأت للتفاوض بل لتوقيع معاهدة السلام، وإذا ما فشلت المفاوضات فإنه لديه خطة شاملة بديلة، تقوم على «المطالبة بتعويضات مالية عن احتلال سيناء، وحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى الضفة الغربية، وتخلّي الإسرائيليين عن القدس الشرقية»، وقد وصف (كارتر) هذه الخطة في مذكراته بأنها «لكمة حقيقية في القلب».

ويذكر (سوليه) أن الرئيس السادات أدرك خلال المفاوضات أن الإسرائيليين مصرّون على الاحتفاظ بمطارات ومزارع في سيناء، فاستدعى مساعديه وهو يغلي غضبا وأمرهم بتوضيب حقائبهم لأنه قرر قطع المفاوضات والمغادرة، إلا أن (كارتر) أقنعه بالبقاء رغم إحباطه الشديد من تعنت الإسرائيليين في التوصل إلى اتفاق السلام، إلى درجة أنه تحدث عن نيته الاستقالة من رئاسة الجمهورية في مصر، معتقدا أن سياسته في استرجاع الأرض قد باءت بالفشل، وينقل عن الرئيس الأميركي جيمي كارتر قوله: ظننت أن السادات سينفجر، فقد كان يضرب الطاولة ويصيح بأن الأرض غير قابلة للتفاوض.

وفي يوم 26 مارس 1979 الساعة الثانية بعد الظهر بتوقيت واشنطن تم توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، وقال السادات عن تلك اللحظة «كانت أسعد لحظة في حياتي»، ويؤكد (سوليه) أن تطبيع العلاقات لم يكن هدفا للسادات ولا بيغين، إنما كان هدفهما إنهاء حالة الحرب التي كان كلاهما بحاجة إليه.

وينقل ?روبير سوليه في كتابه كلمة سبق أن وجهها الرئيس المصري السابق حسني مبارك إلى طلاب جامعة القاهرة جاء فيها ‏«لقد أعيدت إلينا سيناء حتى آخر حبة رمل، وماذا أعطيناهم في المقابل؟ قطعة ورق!».