استرعى تدخل موسكو في سورية انتباه الكثيرين في العالم، لكن تخطت رؤية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في المنطقة حدود سورية وحدها، فمنذ أن تولّى زمام السلطة، وضع ضمن أولوياته استعادة صورة روسيا كقوّة عظمى. وترتّب على هذا الهدف جملة أمورٍ أخرى، عودة إلى المناطق التي اعتادت أن تكون فيها موسكو جهة فاعلة أساسيّة. ويحتل كلٌّ من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أعلى القائمة على جدول أعمال السياسة الخارجية الروسية. وتُظهِر الزيارة الأخيرة التي قام بها وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إلى المغرب في فبراير، والتي ركّزت من بين مسائل أخرى على «تسوية المشاكل القائمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فضلاً عن منطقة الصحراء الكبرى - الساحل»، الأهمية التي توليها موسكو إلى الدور الذي تلعبه في عملية صنع السلام.

وتشكّل منطقة شمال إفريقيا، على نحو متزايد، جزءاً من هذه الجهود التي أُعيد إحياؤها في السنوات الأخيرة. وتُعتبر بداية «الربيع العربي» في هذه المنطقة جانباً أساسياً من الإستراتيجية الإقليمية لموسكو. وتحظى هذه الأحداث بأهمية لصانعي السياسات في موسكو لسببيْن أساسييْن:

أولاً، رأتها موسكو على أنها استمرارية لما تعتبره تغييراً للنظام الذي ترعاه الولايات المتحدة، وامتداداً للثورات الملوّنة التي حصلت بشكلٍ أساسي في مرحلة ما بعد الحكم السوفياتي في منتصف العقد الأول من القرن الحالي. وبالنسبة إلى موسكو، طال هذا الميل أيضاً الشرق الأوسط، لا سيما مع ثورة الأرز في لبنان. ويبدو أن روسيا لا تعتقد أنه بإمكان شعبٍ ما أن ينتفض على حاكمه بنفسه، من دون دعم الولايات المتحدة. وفي هذا السياق، اتّهم بوتين الولايات المتحدة برعاية الاحتجاجات ضده في أواخر عام 2011 وأوائل عام 2012.

وثانياً، تسببت هذه الأحداث بفقدان بوتين مؤقتاً للنفوذ الذي جاهد لاكتسابه مع الأنظمة التي أُطيح بها. لكن فضلاً عن «الربيع العربي»، تمتعت موسكو بمصالح سياسية واقتصادية وجغرافية إستراتيجية في هذه المنطقة. وفي السنوات الأخيرة، تنامى نفوذ موسكو في المنطقة، خصوصاً في مصر وليبيا والجزائر، وبدرجة أقل في المغرب وتونس.

وتطمح روسيا في الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، وهذا جلّ ما يقدّمه الحلفاء في شمال إفريقيا. وقد حاولت موسكو الحصول على وصول بحري منذ عهد كاترين العظمى، التي اعتقدت أن البحر المتوسط شكّل مكوناً أساسياً في جعل روسيا قوةً عظمى.

وفي هذا السياق، لم تتغير تطلعات الكرملين نسبيّاً حتى هذا اليوم. وترى موسكو أن الوصول إلى البحر المتوسط قد يحوّل روسيا إلى جهة فاعلة أساسية في منطقة النفوذ الأوروبي، وقد يقلل أيضاً من قدرة الولايات المتحدة على المناورة. وتتجلّى هذه الصورة أيضاً في البحر الأسود وبحر قزوين، حيث تتنافس موسكو من أجل النفوذ. وقد وضعت موسكو عتادها العسكري في سورية في محاولةٍ لإنشاء منطقة محرّمة (منطقة منع الوصول/تحريم الدخول)، وحققت نجاحاً جزئيّاً. ويعقّد موقع موسكو العسكري قدرة الولايات المتحدة على المناورة. ويمكن أن تساعد زيادة النفوذ في شمال إفريقيا على تحقيق هذا الهدف من خلال تأمين إمكانية ولوج إضافية إلى المرافئ على طول البحر الأبيض المتوسط، وبالتالي توسيع نطاق المنطقة المحرّمة من الجو إلى المياه. ويتمثل الهدف النهائي لمختلف أجزاء المنطقة المحرّمة في حرمان حرية التصرف، أو بمعنى آخر في الردع - وتعمل موسكو على تحقيق هذا الهدف في المنطقة.

ومن الناحية الاقتصادية، تسعى موسكو إلى المنافسة للحصول على دور مصدّرة الأسلحة المعتمدة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بأكملها. وتُعدّ هذه المنطقة بالفعل ثاني أكبر مشتر للأسلحة الروسية، بينما تبقى روسيا أكبر مصدّر للأسلحة في العالم بعد الولايات المتحدة. وفيما يتخطى الأسلحة، توفّر هذه المنطقة فرصاً للشراكات في قطاع الطاقة والاستثمارات في تطوير البنى التحتية. وفي الوقت نفسه، تبرر موسكو وجودها في المنطقة، حيث تدّعي مواصلة الحرب ضد الإرهاب هناك، والحاجة إلى تعزيز الشراكات مع الحلفاء الإقليميين. بالإضافة إلى ذلك، تقدّم شمال إفريقيا أيضاً نقطة انطلاق أعمق جنوباً في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، حيث أصبحت موسكو ناشطة بشكل متزايد في السنوات الثلاث الأخيرة لأسبابٍ اقتصادية وسياسية. ومن غير المرجح أن يتراجع هذا الميل في أي وقت قريب.

وأخيراً، خلّف الانسحاب الأميركي من المنطقة الذي بدأ في عهد إدارة أوباما ويستمر مع إدارة ترمب فراغاً سهّل على بوتين التدخل وترسيخ نفوذه - وما كانت لتتوفّر له هذه الفرص في ظلّ وجود أميركي أقوى. فخلافاً للولايات المتحدة، لا تضع موسكو أي شروط مسبقة على دبلوماسيتها. وتميل هذه الشروط المسبقة، مثل تحسين حقوق الإنسان أو حظر مبيعات الأسلحة الثانوية، إلى دعم ما يفضّله الحكّام الإقليميون.

آنا بورشفسكايا

* متخصصة بالسياسة الروسية تجاه الشرق الأوسط

* موقع «آتلنتيك كوميونيتي» (المجتمع الأطلسي).