عندما يتحدث إنسان لنا بأنه رأى معجزة ما، فستشخص أبصارنا عليه وتصغي آذاننا إليه، ونحبس أنفاسنا، لسماع ما سوف يقوله، لأنه سوف يقول لنا شيئا عجز البشر عن فعل مثله من قبل، أو عجزوا عن محاكاته فيما بعده. وصنع المعجزات قليل ونادر في حياة البشرية، حيث اعتاد البشر على تقليد ما يمكن تقليده من أعمال وأفعال من سبقوهم أو معاصريهم، وعدم المجازفة في الخروج عن خط التقليد، وذلك جلباً للسلامة ودرءاً للمخاطرة والمجازفة، ومنعاً من لصق تهمة الفشل أو التهور إليهم، والتي قد يكون عقابها كبيراً مادياً أو معنوياً، ولذلك فليس بالمستغرب من أن نسمع دوماً، عندما تطرح فكرة جديدة وسوف تحدث عند تطبيقها نقلة نوعية في حياة البشرية، بأنها فكرة مستحيلة، أو متهورة أو غير ممكنة وغير قابلة للتنفيذ، وقد يصدمك بهذه الإحباطات أول من يصدمك، هم من يعتبرون خبراء في مجال الفكرة الجديدة المطروحة.

والمعجزات البشرية التي تأتي عن طريق أفراد، من مخترعين ومكتشفين، صحيح أنها قليلة، وتحدث بشكل متقطع ومتباعد، ولكنها تنسب لأشخاص لا يقاس عليهم غيرهم، ولكن المعجزات التي تحدث عن طريق عمل جماعي، هي النادرة جداً في تاريخ الإنجازات البشرية والتي لم تتعد الرقم (7)، وهي التي أطلق عليها عجائب الدنيا، مثل الأهرامات وحدائق بابل المعلقة وسور الصين العظيم وبقية عجائب الدنيا السبع.

ومن آخر الأماكن التي تُتوقع، أو تتوقع منها البشرية حدوث معجزة هي المناطق الصحراوية المترامية الأطراف، حيث صعوبة تضاريسها وشح خيراتها، تجعل من الصعب على قاطنها، التفكير في شيء غير البقاء على قيد الحياة، منذ ولادته وحتى مماته، حيث تتحول حياته إلى مشقة مستمرة لا تنتهي في البحث عن شحيح الرزق والمحافظة عليه. وقاطنو الصحاري من آخر البشر الذين يأملون في حدوث أي شيء جديد في حياتهم، يضاف على ما عهدوه في حياتهم، منذ آلاف السنين وتعودوا عليه من شظف العيش وكفافه، ولا يأملون أن يحصلوا حتى على أبسط وسائل الطبخ البسيطة في مطابخهم، والتي يتمتع بها غيرهم من ساكني الأودية والأنهار والغابات والمدن التجارية والصناعية، ولذلك فسعي أحدهم الدؤوب على الحفاظ على ما لديه من شحيح الرزق ووسائله، جعل منه مخلوقا محافظا بالفطرة والنزعة، لا يؤمن بالتغيير أو التجديد، الذي يأتيه من خارج صحرائه، ناهيك عن أن يقوم هو بفعل ذلك التغيير أو التجديد. وإذا كان قاطن الصحراء، وبالطبيعة والفطرة، مقاوما ومناضلا شرسا، لأي تغيير على حياته ووسائل كسبه؛ فمن الطبيعي ألا يكون قد سمع عن مفردة معجزة في حياته كلها، ناهيك عن أن يفعلها أو حتى يفكر بها.

وأول من جمع مفردة معجزة وقرنها بنقيضتها رمال الصحراء، هو المؤرخ أحمد عسه في كتابه " معجزة فوق الرمال" والمنشور سنة 1965. والذي يتناول فيه المؤرخ سيرة وإنجازات المغفور له الملك عبدالعزيز في توحيد المملكة العربية السعودية. والسؤال الذي كان يطرحه كثير من نقاد الكتاب، هو: وهل توحيد البلدان والممالك يستحق إطلاق معجزة عليه، خاصة كون المئات سبقوا الملك عبدالعزيز في توحيد ممالك أكبر بكثير من مساحة المملكة، وكذلك في صحاري؟، سؤال جدير بأخذه على محمل الجد، مع كون غالبية السعوديين يوافقون المؤرخ في وصف ما قام به الملك عبدالعزيز بالمعجزة.

ولقد رأيت معجزة من المعجزات التي تحققت بفضل الملك عبدالعزيز على رمالنا، عياناً بياناً، شاخصة لا ينكرها إلا جاحد أو حاقد، وذلك عندما دعيت أنا ومجموعة من الزميلات والزملاء الكتاب من قبل شركة أرامكو لزيارة الشركة وعدد من مشاريعها الضخمة في التنقيب واستخراج وتكرير النفط. كلها من الممكن إطلاق معجزات عليها، ولكن ما يستحق فعلاً بأن يسمى معجزة بشرية لم يسبق لها مثيل، هو معجزة اكتشاف وحفر واستخراج وتكرير النفط في حقل شيبة النفطي، في الربع الخالي.

فالربع الخالي كما هو معروف يشكل أكبر وأوحش صحراء في العالم؛ ممتنع عن البشر عبوره، ناهيك عن العيش فيه. فمساحته تبلغ حوالي650 ألف كيلو متر مربع، طوله 1000 كلم وعرضه 500 كلم، أي بحجم مساحة كل من فرنسا وبلجيكا وهولندا مجتمعة. وهو عبارة عن كثبان رملية متحركة، طول بعضها أطول من برج إيفل، أي لا معالم له يُهتدى بها. وتصل حرارته صيفاً لـ 74 درجة مئوية، وتهب فيه عواصف رملية تحمل الرمال عالياً لارتفاع أكثر من 3700م، تحجب الرؤية لمدة ثلاثة أيام أو أكثر، وتعطل حتى حركة الطيران، ناهيك عن الحركة فوق تلك الرمال. وكما كان يقال الداخل فيه مفقود والخارج منه مولود، ولذلك فمنذ عشرات الآلاف من السنين، والبشر يتجنبون ويحذرون من دخوله، ناهيك عن محاولة التفكير في البحث فيه عن شيء.

ولكن عندما تعاقد الملك عبدالعزيز، مع شركة سوكال، للتنقيب عن النفط واستخراجه عام 1932م، والتي تحولت فيما بعد إلى شركة أرامكو في عام 1943، ثم إلى شركة أرامكو السعودية في بداية السبعينيات ميلادية، كانت عيون جيولوجيي الشركة ترمق بتلهف الربع الخالي، متأكدة أن الجحيم الرملي الموحش هذا، قد لا يخلو من نفط في أعماقه. وفعلاً في عام 1968م، تم اكتشاف النفط وبكميات ضخمة في منطقة الشيبة في وسط الربع الخالي، حيث قدروه بحوالي 14 بليون برميل من النفط، و25 تريليون قدم مكعبة من الغاز؛ ولكن تقنيات استخراج النفط آنذاك، لم تكن لتساعدهم لاستخراجه.

وفي عام 1995، قرر جيولوجيو أرامكو السعوديون، أن الوقت قد حان لاستخراج النفط من حقل الشيبة النفطي في أعماق الربع الخالي، حيث ساعدهم تطور تقنية التنقيب واستخراج النفط، فرسموا الخطط ووضعوا الدراسات، وشرعوا في تنفيذ مخططهم في عام 1996م. وقد عبدوا طريق من منفذ البطحاء لموقع حقل شيبة، بطول 386 كلم. ومدوا أنابيب بقطر 162سم، وبطول 686 كلم، لنقل النفط من الحقل، لمعامل ومصافي بقيق. وتم إنشاء مطار في الحقل، طول مدرجه 3 كلم، يستقبل طائرات كبيرة من نوع بوينج 737. وكانت الرمال التي أزيحت لبناء المدرج فقط، تقدر بحوالي 15 مليون متر مكعب، أي ما يساوي ستة أضعاف حجم هرم خوفو الكبير في الجيزة. ناهيك عن بقية مرافق الحقل الذي يبلغ طوله 68 كلم وعرضه 13 كلم. وقد تم إنجاز المشروع بمدة قدرها 30 شهرا، على حسب ما رسم له، وضمن الميزانية المقدرة.

وبدأ الإنتاج في الحقل عام 1998، وبكمية تقدر بحوالي 500 ألف برميل يومياً، ولذلك فمشروع حقل الشيبة يعتبر وبحق أحد أكبر المشاريع في العالم، وتم إنجازه وتشغيله بأيادي خبراء ومهنيين سعوديين مئة بالمئة. وكل هذا تم بفضل الله، وبفضل بصيرة الملك عبدالعزيز، الذي صنع المعجزة الأولى، وأكملها أبناؤه من منتسبي ومنتسبات شركة أرامكو السعودية. وتعد الشيبة ملحمة من ملاحم العمل والتخطيط والإدارة والتصميم والمثابرة في تاريخ صناعة النفط العالمية، والقادم بإذن الله من المعجزات أكبر وأكبر.