تمثل أرامكو السعودية بالنسبة لي وللبعض، أزعم أنهم كُثر، شركة بترول ضخمة معنية بتصدير الزيت، تمثل العصب الأساس لاقتصاد المملكة، موظفوها يحظون بامتيازات معنوية ومادية كبيرة، وسوى ذلك هي عالم مغلق، إلا أنني حظيت مع ثلة كريمة من كتاب ومثقفين ومثقفات بدعوة لزيارتها عن قرب، فكان لنا في أجوائها العبقة بسحر العلم والعمل يومان مميزان.

ورغم الجدول المزدحم بزيارة الأماكن والمعامل، ورؤية بعض العروض والأفلام الوثائقية عن الشركة وحقولها وطرق استخراج الزيت من معاملها، والاطلاع على غرفة التحكم في عمليات ترحيل الزيت والغاز من الآبار إلى المعامل حتى مرافق التخزين والشحن والتوزيع، فقد حملت الذاكرة الكثير عن هذه الشركة العملاقة التي تدير اقتصاد الوطن على أكف الأكفاء.

تتميز رؤية أرامكو السعودية؛ أكبر شركة طاقة في العالم، بالحفاظ على استمرارية كونها الشركة الأكثر موثوقية في العالم، وبالقدر نفسه يأتي الاهتمام في استثمار الموارد البشرية، كما ذكر لنا ذلك رئيسها الفاضل المهندس خالد الفالح.

وللشركة إسهامات لترسيخ فكرة المواطنة من خلال خدمة المجتمع في هيكلية تضم أربعة أركان: الاقتصاد، المجتمع، المعرفة، والبيئة، مركزة على التطور الذاتي والتعلم مدى الحياة لطلابها وموظفيها؛ مهنيين وأكاديميين وإداريين، مع الحرص على إثراء بيئة العمل وجعلها أكثر تشويقا عن طريق تنوع وظائفها وكثرتها تعليميا ومهنيا وتقنياً.

وفي عام 2009 بدأ برنامجها الأساسي لتطوير كفاءات الشباب الذي يساعد شباب المملكة على اكتساب المهارات اللازمة للمنافسة في الاقتصاد العالمي القائم على المعرفة هادفة للوصول إلى 10 آلاف شاب بحلول عام 2012 و 200 ألف شاب بحلول عام 2030، كما ستفتتح مشروع مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي عام 2013 الذي سيوفر مدخلا غير مسبوق للبرامج والمرافق العالمية، ويطلق العنان للإمكانات الإبداعية لنحو مليوني زائر، إضافة لتوفر برنامج الإعداد الجامعي والشهادة الجامعية، ونظام الابتعاث المخصص للموهوبين والموهوبات في الأقسام العلمية من خريجي الثانوية السعوديين.

ولعل من أجمل فقرات البرنامج الذي أعدته لنا أرامكو مشكورة؛ زيارة حقل "الشيبة" في الربع الخالي، الذي افتتح مشروعه خادم الحرمين الشريفين مارس 1999 ليلمع اسم الشيبة على خريطة مصادر الطاقة وصناعاتها حاملاً ثروة عظيمة لإنتاج الزيت الخام، بمعامله الضخمة الأربعة التي تشغل وتطبق مفهوم الحقول الذكية.

ركبنا الجو لحقل الشيبة، وعندما قاربنا تخوم الربع الغالي المسمى الخالي، كان امتداد قرميد أحمر من التلال الرملية الساحرة وتكويناتها الكثبانية المتمازجة بأشكال هلالية ونجمية وأخرى طولية وعرضية عن يمين وشمال الطائرة يمثل منظرا مدهشا يملأ الشخص بالأسئلة، متجاوزاً الإجابة إلى تصور قوة الإرادة التي رسمت خطوط النقل والمعامل وسط الكثبان براً وجواً، مازجة الصحراء بالعالم الجديد، راسمة زهو الامتزاج بين الخيمة ومعامل التكرير.

وبعد أن لامست أقدامنا تراب الشيبة وعلى امتداد النظر من فوق كثيب خيمة المنتجع كان النظر يمتد لمشروع الشيبة بقلبه النابض "إنسان العصر"، وأطرافه التي تحمل المعامل، عندها تمثل للذاكرة رائدا المجال الاستكشافي للنفط:

• "خميس ابن رمثان"؛ دليل الجيولوجيين الأوائل وأحد عباقرة أرامكو التاريخيين والمصدر الأساسي في فريق الاستكشاف، بما يملكه من مهارات ملاحية طبيعية، أدهشت الرواد الأمريكيين الأوائل وأثارت إعجابهم لاختصاصه في سبر أغوار الصحراء، ومعرفته الثاقبة بكل شبر فيها. حتى وصف بلغة التقنية ب: "جي بي إس" بشري.. تشبيها لدماغه بجهاز تحديد المواقع بالأقمار الصناعية.. إنه الدليل الذي حمل البشارة معلناً مولد عصر العلم والصناعة.

• وصاحب الإرادة القاهرة والعزيمة الصامدة للطبيعة الجيولوجي الأمريكي ماكس ستاينكي الذي أصر على الحفر رغم أوامر الشركة له بالتوقف، لكن يبدو أن إرادته الصارمة فلقت الصخر وكثبان الرمل ليتفجر الزيت من البئر السابعة التي سماها خادم الحرمين حفظه الله وشفاه شفاء تاماً بـ"بئر الخير".

وعندما تنعمنا بالصعود على تلال الربع الخالي كان النظر يمتد بامتداد الصحراء ويقصر ليضم جماعة على أحد كثبانه الغنية متسائلاً عن سر عطاء يسكن صحراء تجمع كل النقائض، أرض وسماء، مظهر ومخبر، ألفة ووحشة، في وسط امتداد تكوينات ساحرة مثلت وهج الطبيعة، ورُسِمت بريشة الريح والشمس، سر وسحر مكان لا يدفعك للبهجة وحدها بل يفرض حبك وعشقك للصحراء، وسط غموض يحمل كل التناقض بين غنى جوفها وبساطة ما تبديه!

وهطل الغروب ليرمي برؤية أبعد، ويعد بفجر يحمل أكثر من بشارة بحقول وحقول لهذا الاتساع الرملي الوهاج بلون الشمس الزاهية ساعة السحر، لكأنما الرمال الممتدة بامتداد يفوق النظر تعانق زرقة السماء مكونة زهو صورة وألوان، فيتردد النظر بين رمال سابحة بغنج ودلال، وخشونة وقسوة، وسماء اختلطت زرقتها بالأصفر والأحمر والوردي معلنة المغيب لانتظار إشراق فجر جديد، حتى بت أفهم سر الجمال من متناقض الأشياء.

شكراً أرامكو السعودية على الإمتاع الفائدة.

لدي سؤال بسيط لوزارة التربية والتعليم: لماذا لا تستفيد الوزارة من خطط أرامكو "المدروسة" بعناية، التي توازن بين حاجة الوطن ومخرجات التخصصات، على أمل أن تطبقها كما هي، لئلا نفاجأ بنتائج تطوير مشابهة لهذا العام، حيث أدرجت مادة الحاسب بلا توفير كمبيوترات، وبقيت معامل العلوم على "طمام المرحوم".

وفكرة سياحية للتفكير:

كما تتعاون شركة أرامكو السعودية مع المؤسسات الحكومية، لتطرق الشركة باب هيئة السياحة والآثار للمشاركة ببناء منتجع سياحي لزوار الشيبة السعوديين والأجانب، فهي معلم رائع وسط الصحراء، على أمل أن تطلق على برنامج الرحلات أو المنتجع اسم "ابن رمثان".