كثيرة هي المؤتمرات والزيارات التي نعشقها حد الشبق نحن معشر الكتاب والمثقفين، حتى وإن بدت علينا بعض مظاهر الضجر والملل والتعفف من كثرة هذه "التجمعات البشرية" التي يُطلق عليها عادة مؤتمرات أو زيارات. نحرص عليها كثيراً، وتقوم الدنيا ولا تقعد حينما يفوتنا أحدها، ولكن أمام المرايا الكذابة والأضواء نكرر دائما بأننا مرغمون للحضور نزولاً عند رغبة المنظمين. كذبة نمتهنها بحرفية عالية، ولكنها على كل حال كذبة جميلة ومفيدة ما دامت تفاصيلها الصغيرة والكبيرة مغرية بالنسبة لنا، تذكرة درجة أولى، سويت فاخر في أحد الفنادق الكبرى، كاميرات وأضواء ولقاءات وألقاب ومديح، وسيارات فارهة.. والكثير الكثير من مظاهر التدليل الرائع والحفاوة البالغة. لقد أصبحت هذه الحياة المخملية أشبه بثقافة حاضرة بقوة في واقعنا المعاصر، ثقافة المؤتمرات التي تُعتبر النسخة الأحدث من منظومة الثقافات الشكلية الطارئة على مجتمعنا.

قبل عدة أيام، كنت وكوكبة رائعة من كتاب الوطن، كل الوطن في زيارة خاصة لشركة أرامكو السعودية امتدت لثلاثة أيام، وبدعوة كريمة من رئيسها الأعلى خالد الفالح. "زيارة قادة الفكر"، عنوان كبير وثقيل أسبغه علينا منظمو هذه الزيارة التاريخية ــ بالنسبة لنا طبعاً ــ التي لن تبرح الذاكرة أبداً.

نقرأ ونسمع كثيراً عن هذه الشركة العالمية العملاقة التي تُمثل عصب الاقتصاد الوطني، بل العالم بأسره، فهي الشركة الأهم والأكبر في مجال النفط على المستوى العالمي، وتملك أكبر احتياطي للزيت الخام في العالم بنسبة تفوق ربع إجمالي الاحتياطي العالمي، وهي أكبر منتج ومصدر للزيت في العالم، وهي أيضاً من كبرى الشركات العالمية في مجال الغاز الطبيعي، ويعمل بها جيش من الموظفين يتجاوز الـ 52 ألف موظف وموظفة، وبنت المدارس والجامعات والمستشفيات، وأسهمت في بناء وتطوير وازدهار المنطقة الشرقية والعديد من المناطق الأخرى، إضافة إلى العديد من الأعمال والخدمات التي نعرفها عن بعد عن هذه الشركة العملاقة التي تُحيط نفسها بسور عال من الخصوصية والاستقلالية، الذي عزلها ولكنه في نفس الوقت ميزها عن الآخرين، سواء المتطفلون أو العابثون، هذه المرة كانت من الداخل، وعن قرب، واستطاع الوفد الإعلامي المكون من بعض كبار الكتاب وسيداته المخضرمات، إضافة إلى ثلة من الجيل الجديد من كتاب الصحف المحلية، وإن كانت الأكثرية الساحقة من صحيفة الوطن، أسماء مهمة في إعلامنا الوطني، إبراهيم البليهي وحمزة المزيني وعبدالرحمن الوابلي وحصة آل الشيخ وهداية درويش وحليمة مظفر والبقية الرائعة من كتاب الوطن، وغيرها استطاعت أن تكتشف أرامكو من الداخل.

معرض أرامكو، مشروع الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي الذي سيكون جاهزاً في عام 2013م، برنامج السلامة المروري الذي تشتهر به أرامكو، مركز التنقيب وهندسة البترول، مركز التطوير المهني في قطاع التنقيب والإنتاج، مركز التحكم في إنتاج وتخزين وشحن وتوزيع الزيت والغاز، مركز التدريب للبنين والبنات، والعديد من المواقع والمراكز المهمة في هذه الشركة الضخمة. أما "شيبة"، فهي تجربة فريدة تسكن الذاكرة للأبد. الكثبان الرملية الساحرة التي يصل ارتفاعها إلى 200 متر هي كل شيء هناك تقريباً، تُحاصر الحقل والمعامل والمباني والموظفين من كل مكان، فهي سيدة المكان، ولكن الشباب الرائع الذي يعمل بصمت وهدوء ومهارة يبعث في هذه البقعة المتوسدة حبات الرمل شرايين تضخ الحياة والزيت في آن معاً. حقل شيبة الذي ينتج أكثر من 600 ألف برميل يومياً منذ 1998م، ويقع على بعد 40 كلم من الطرف الشمالي من الربع الخالي، وعلى بعد 10 كلم من أبو ظبي، ويسكنه أكثر من 600 موظف.

وكان لابد من لقاء رئيس هذه الشركة الاستثنائية التي تبعث الأمل بمستقبل هذه الأمة. خالد عبد العزيز الفالح، كما رأيته جيداً، حاد الملامح والذكاء، يستمع كثيراً قبل أن يتكلم، يُجيد الحوار رغم صراحته الشديدة، يُحيل الكثير من الأسئلة لمساعديه رغم أنه يملك الإجابة، يشع من عينيه بريق القيادة والحزم والعمق وإن بدا مبتسماً طوال اللقاء. التحق بالشركة في عام 1979م، وابتعث للدراسة في جامعة تكساس ليحصل على درجة البكالوريوس في الهندسة الميكانيكية عام 1982، ثم واصل دراسته وحصل على درجة الماجستير في عام 1991م في تخصص إدارة الأعمال من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن. تدرج في عدة وظائف مهمة إلى أن أصبح في عام 2009م في منصب رئيس شركة أرامكو السعودية وكبير إدارييها التنفيذيين. وفي منزل كبار الضيوف أجاب رئيس أكبر شركة نفط في العالم وأحد أهم الشخصيات العالمية على كل الأسئلة الملتوية والملغومة التي نُجيدها نحن الكتاب، وكان في كل مرة يُجيب بهدوء وثقة وموضوعية وصراحة شديدة.

لماذا نجحت أرامكو وأخفق غيرها؟ سؤال كبير كهذا بحاجة إلى دراسة وبحث وتأمل ورغبة وشفافية قبل الإجابة عليه، ولكن أظن ــ وبعض الظن إثم ــ أن هذه المفاتيح السحرية التي تمتلكها أرامكو قد تُشير إلى سبب ذلك النجاح الباهر والمستمر لهذه الشركة العالمية، مفاتيح كالاستقلالية، الانضباطية، التدريب المستمر، التطوير، التحدي، الكفاءة، أهمية الوقت، التميز وليس التمييز، وغيرها من مفاتيح النجاح، هذه المفاتيح التي لا وجود لها في تلك المكاتب التي تسكنها تلك العقول المغلقة.

خالد الفالح، هدى الغصن، ناصر النفيسي، أحمد عابد، متعب، طارق، وليد، حوراء، وباقي السلسلة الذهبية الأرامكوية الرائعة: شكراً من الأعماق.