الأمطار (الذكية) التي هطلت على مدينة جدة يوم الأربعاء الفائت، كشفت (غباء) خبراء التخطيط البيئي لهذه المدينة الساحلية، وأدت إلى استباحة 80% من أنفاقها وطرقها واستخدمتها كمجرى بديل للسيول الجارفة.

هذه الأمطار (الذكية) هطلت على منطقة لا تزيد مساحتها عن (400-600) كيلو متر مربع، واستمرت لفترة زمنية محدودة تساوي (3-4) ساعات، ليرتفع منسوبها بحدود (102-120) ميليمترا. باستخدام معادلات المناسيب المائية، يتضح أن كمية الأمطار التي هطلت على جدة فاقت (6-9) مليارات متر مكعب من المياه، لتساوي نصف كمية الاستهلاك الوطني للمياه في كافة أرجاء المملكة، والمقدر بحدود 17 مليار متر مكعب سنوياً.

في المعدل العالمي السنوي للأمطار، تأتي "بنجلاديش" في مقدمة الدول بمعدل 2665 ميليمترا موزعة على 215 يوما، تليها "سورينام" بمعدل 2330 ميليمترا خلال 213 يوما، ثم البرازيل بمعدل 1782 ميليمترا في 197 يوما، ثم اليابان بمعدل 1766 ميليمترا في 190 يوما، ثم بريطانيا وفرنسا بمعدل 1219 ميليمترا في 188 يوما. وتأتي المناطق الصحراوية في آخر القائمة بمعدلات سنوية تصل إلى 82 ميليمترا في البحرين و51 ميليمترا في مصر و25 ميليمترا في الصحراء الغربية، موزعة جميعها على أيام محدودة.

توضح هذه الإحصائيات أن أمطار جدة (الذكية) تدفقت بغزارة خلال فترة زمنية وجيزة وعلى مساحة محدودة من أرض المدينة الساحلية، ولكنها لم تتسرب إلى داخل الأرض بطريقة الرشح أو التشرب، ولم تتبخر في الجو بفعل الطاقة الحرارية، وإنما بقيت على سطح الأرض لتنحدر نحو الشريط الساحلي وهو ما يعرف بالجريان السطحي.

(خبراء) تخطيط الأنفاق والطرق في مدينة جدة تجاهلوا أبسط القواعد البيئية وأحكام تخطيط المدن الساحلية. فكلما ازدادت غزارة الأمطار بالنسبة لمعدل تسرب المياه داخل الأرض ازداد معدل الجريان السطحي، وكلما كان سطح الأرض أملس ومنحدراً باتجاه البحر تفاقمت حدة هذا الجريان وتضاعفت قدرته وقوته، ليتحول إلى سيل جارف ويقتلع كل ما يقف أمامه كما حصل في مدينة جدة الساحلية.

ويعتمد حجم الجريان السطحي لمياه الأمطار في المرتبة الأولى على الميزان المائي لأحواض التصريف، الذي تجاهله (خبراء) تخطيط البنية التحتية للمدينة الساحلية. كما يعتمد هذا الجريان في المرتبة الثانية على موقع الشريط الساحلي لشواطئ البحر التي تشكّل عادة أكثر المستويات انخفاضاً في طوبوغرافية الأرض، وبالتالي يصبح هذا الموقع الوجهة الأخيرة للجريان السطحي للمياه والسيول.

وحيث إن معظم أنفاق جدة القديمة والحديثة تتجه من الشرق (المرتفع) للغرب (المنخفض) باتجاه الشريط الساحلي، فإن الجريان السطحي للأمطار تفاقم بشكل كبير لافت للنظر في هذه الأنفاق، التي اعتبرتها الأمطار (الذكية) أودية سطحية ملساء، واستخدمتها السيول للانحدار بقوة باتجاه ساحل البحر الأحمر.

هذه الحقائق المريرة تعطينا فكرة واضحة عن مأساة جدة وتفاقم أوضاعها التي تنحصر في ضعف تخطيط بيئتها الساحلية وسوء اختيار مواقع أنفاقها وطرقها، وافتقار بنيتها التحتية للميزان المائي وأحواض تصريف المياه، لتصبح مدينة جدة عرضة لمثل هذه الكوارث الطبيعية، إلا إذا تم تنفيذ الخطوات الرئيسية التالية:

أولاً: التعاقد الفوري مع كبرى الشركات العالمية الاستشارية المتخصصة في إدارة موارد المياه وتخطيط البنية التحتية للمدن الساحلية، التي قامت بدراسة وتخطيط المشاريع المماثلة في كل من البرازيل وأستراليا وكندا وأميركا والصين وأوروبا، للقيام بدراسة أوضاع جدة وتحديد الحلول الناجعة لمشاكلها المزمنة بما يضمن عدم تكرار مثل هذه الحوادث الأليمة.

ثانياً: التنفيذ الفوري لمشاريع أحواض تصريف المياه بأسرع وقت للمحافظة على الميزان المائي للبنية التحتية في مدينة جدة، على أن تتزامن هذه المشاريع مع تخفيض المناسيب المائية تحت الأراضي السكنية بما يضمن عدم اختلاطها بمياه التحلية ومياه الصرف الصحي.

ثالثاً: استبدال الأنفاق بالكباري المعلقة، كما هو قائم ومعمول به في مختلف المدن الساحلية، أو تعديل مسارات واتجاه الأنفاق من (شرق-غرب) إلى (شمال-جنوب)، حتى لا تستخدمها السيول للانحدار تجاه الشريط الساحلي.

رابعاً: بناء منظومة من السدود الاحترازية في المناطق المرتفعة شرق مدينة جدة لحجز مياه الأمطار وتحويل مسار السيول إلى المكامن الآمنة للمياه المتوفرة تحت سطح الأرض، ليتم تجميعها ومنع تسربها للشريط الساحلي واستخدامها كمخزون استراتيجي للمياه يستفاد منه في فترات الجفاف.

خامساً: التوقف فوراً عن منح تصاريح البناء في الأحياء الجديدة عامة والشريط الساحلي خاصة لحين الانتهاء من مشاريع أحواض تصريف المياه للحيلولة دون تفاقم الأحوال الصحية والبيئية لمحافظة جدة، مع الأخذ بعين الاعتبار التطور العمراني الرأسي على الشريط الساحلي الذي يتطلب حتماً زيادة حجم أحواض التصريف في هذه المدينة الساحلية.

مدينة جدة ليست بحاجة لإعادة اختراع العجلة لمعالجة مشاكلها البيئية والمائية بشكل جذري، فهنالك العديد من المدن الساحلية العالمية التي كانت إلى زمن قريب تعاني من أسوأ السيول والفيضانات وأبشع أنواع الانجراف البيئي والتدهور الصحي. خلال فترات وجيزة استطاعت هذه المدن التغلب على مشاكلها وأبدعت في رفع مكانتها البيئية العالمية، مثل مدينة "ساوباولو" في البرازيل، و"جوهانسبورغ" في جنوب أفريقيا و"بانكوك" في تايلند و"برشلونة" في إسبانيا و"لواندا" في أنجولا.

أمطار "جدة" أشد ذكاءً من (خبراء) تخطيطها، وعلينا التخلص منهم فوراً.