يعز على العقلاء ـ في جميع دول العالم ـ أن يروا وجهين متنافرين لمن يضعون فيهم ثقتهم، فيندمون على ما أولوهم إياهم من ثقة، أو أملوا فيهم من عطاء؛ عندما كانوا يلبسون أقنعتهم المزيفة. وتظهر هذه الأقنعة على أولئك المتلونين في مناسبات متباعدة بحسب نظام كل دولة:

فالناخب ـ أياً كان المجلس الذي يريد دخوله ـ لا ينفك عن الدعاية لنفسه بما سيحققه لناخبيه حال ترشحه، وبما سيطالب لهم به فيما لا يقدر على فعله، وما هي إلا أن ينجح بعضهم بتلك الأصوات المغدورة حتى يدير لهم ظهره، فيبدأ في تكوين علاقاته، وترسيخ مواقعه، وتثبيت مواقفه، باستغلال كرسيه في تحقيق مكاسب قاصرة؛ بالضغط على بعض المفرطين من قادة المصالح العامة، عبر ثغرات يخشون توسيعها، أو التنبه لها من صناع القرار.

ومثله المسؤول الذي يتلقف الإشاعات من كل أحد، ويتطلب الأخبار في جميع الأرجاء؛ رجاء أن يجد ما يهدئ من فورة ما يعانيه من تشوف للبقاء في دائرته، وقد يتزلف لدى هذا أو ذاك قبيل موعد انتهاء مدته؛ لعله يسند أمر تجديد الثقة فيه، وما إن يسمع خبر التمديد له حتى يوطن نفسه أنه باق مدة الدورة القادمة كاملة، فيعود لتطلب ما فات عليه تحصيله وقت ولايته السابقة.

وما يفعله هذان النوعان من ذوي الأقنعة المتعددة يفعله سائر الموظفين العامين مع رؤسائهم ومسؤوليهم، فتراهم خدماً وقت السعي لمآربهم يبتسمون لكل أحد، ويستجيبون لكل نداء، ويتبسطون مع الجميع، ويلينون لكل آخذ بأيديهم، كما يفعله الخادم مع مخدوميه سواءً بسواء.

ثم عندما تتحقق أهدافهم يبادرون على الفور بنزع أقنعة الخُدَّام ليلبسوا أقنعة السادة، فلا تكاد ترى الواحد منهم إلا في صفحات الجرائد، ولا تكاد تسمعه إلا عبر الأثير من المذياع أو التلفاز، ولا تقدر على لقائه إلا بعد التنسيق مع أزلام مكتبه في يوم قد يطول وعده ويقصر أمده.

بل إن أمثال هؤلاء لا يتورعون عن خلع قناع السيد ولبس قناع الخادم عند اقتراب الأجل واضطراب الأمل، وهكذا يتلونون تلون الحرباء بحسب موقعها.

وقد يمتد ذلك التلون بأحدهم حتى بعد ظهور الأخبار غير المرحب بها منه، فلا ييأس أبداً، ولا يزال يعقد الآمال أن يكون قد ادخر له ما هو أعلى وأهم؛ فيزيد من عيار التخلق المزيف، ويكثر من حضوره في المجامع؛ حتى يتحقق له مراده، أو ينقطع رجاؤه، فينزوي على نفسه حتى يهلك، وأعقلهم من يتفرغ لتدارك ما بقي من صحته بتطلب علاج ما اضطرب منها.

لقد نسي هؤلاء المغرورون تلك الخاتمة التي لا بد لأمثالهم من شهودها وتذوقها كما فعل بأسلافهم، وقديماً قيل: لو دامت لغيرك لما وصلت إليك.

هذه أحوال من آثر الزائلات الباطلات على الباقيات الصالحات، ولو أنهم آمنوا بما يقضيه لهم خالقهم: لما اجتهدوا في طلب ما كفاهم الله أمره، ولو أنهم أحسنوا فيما يكله إليهم إمامهم: لما أسفوا على استبدالهم بغيرهم فيما ائتمنوا عليه، ولو أنهم احتسبوا فيما عملوه وقت ولايتهم: لوجدوا خيره وبره وأثره فيما بقي لهم من حياتهم.

إن مما ينبغي على المعنيين بالأمر الصادقين: الحذر من الوقوع في فخاخ الاغترار بمثل هؤلاء المزيفين، ومن قبول المشورة بهم من قبل المنتفعين منهم، وإن في تكثيف السؤال وتنويع مصادر الإفادة: لمنجاة من التورط مع من لا خير فيهم لغير أنفسهم.

كما أن على المعنيين بالأمر الناصحين: الاحتياط لمن ولاهم الله أمرهم؛ برصد سياسات هؤلاء الأتباع خلال أدائهم أعمالهم، وتكثيف الرقابة عليهم؛ ولو بتخصيص جهاز كامل لتلك المتابعات، فكلما كانت المتابعة دقيقة كلما كانت التجاوزات أقل قدراً، وأخف ضرراً.

كما أن على المعنيين بالأمر الصالحين: قطع طرق إمداد الفساد والإفساد عن هؤلاء الأتباع؛ بتفعيل المبدأ الأهم والسؤال الأشم: من أين لك هذا؟. هذا المبدأ النبوي الإسلامي البحت الذي ابتدأه المصطفى عليه الصلاة والسلام، وأكد عليه الخليفة الفاروق رضي الله عنه، وقد سبق لي أن كتبت عنه.

كما أن على المعنيين بالأمر المهديين: أن يطلبوا من كل تابع من أتباعهم تقريراً دورياً عن أداء أعمالهم، وتكليف جهة مختصة بالتحقق مما يرد في تلك التقارير، ومحاسبة من يورد في تلك التقارير أموراً مبالغاً فيها أو أشياء لا حقيقة لها.

كما أن على المعنيين بالأمر الحازمين: أن يضربوا بحزم وعزم على من يثبت ضعفه أو خلله من الأتباع، وأن لا ينتظروا بهم حتى انتهاء ولاياتهم؛ فالضرر منهم سيطال الكثير من الرعية كلما تأخر حسم أمرهم، وليعلموا وفقهم الله: أن استدراك الأخطاء في حينها خير من مغبة التباطؤ، وأن الإيقاع بالمسؤول الفاسد خير من تهمة التواطؤ.

وإليكم هذه القصة الجليلة من سيرة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه [عندما تولى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إمارة الكوفة بنى للإمارة قصراً مشرفاً على السوق، واتخذ له غرفة يطل منها عليه، وكان يجلس فيها مع أصحابه، فكان لا يكاد يسمع ما يقوله جلساؤه من غوغاء السوق، فأمر من صنع له باباً، فلما أغلقه قال: انقطع الصوت، فنقل لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن سعداً اتخذ قصراً سماه باسمه: قصر سعد. وأنه احتجب فيه عن الناس، وأنه صنع باباً حتى لا يسمع كلامهم. فكتب الخليفة رسالةً لسعد بن أبي وقاص، وبعث بها محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وقال له: اعمد إلى القصر حتى تحرق بابه، ثم ارجع على الفور؛ فخرج رسول الخليفة حتى قدم الكوفة، فاشترى حطباً، ثم أتى به القصر، فأحرق الباب، ولما أتى سعد أخبر الخبر، فقال: هذا رسول أرسل لهذا الشأن. وبعث لينظر من هو؟، فإذا هو محمد بن مسلمة، فأرسل إليه رسولاً ليدخل، فأبى، فخرج إليه سعد، فأراده على النزول، فأبى، وعرض عليه نفقةً لرجوعه فلم يأخذها، ودفع كتاب عمر إلى سعد، وفيه: (بلغني أنك بنيت قصراً اتخذته حصناً، ويسمى: قصر سعد، وجعلت بينك وبين الناس باباً؛ فاعلم أنه ليس بقصرك؛ فانزل منه منزلًا مما يلي بيوت الأموال، ولا تجعل على القصر باباً يمنع الناس من دخوله، فتنفيهم به عن حقوقهم، فليوافقوا مجلسك ومخرجك من دارك إذا خرجت)، فحلف سعد: أنه ما قال الذي قالوا لأمير المؤمنين، فقال له محمد: نقصد الذي أمرنا، ونؤدي عنك ما تقول] والقصة بأطول من هذا رواها الإمام الطبري في تاريخه.