السؤال الذي يطرحه عليك أي صديق أو زميل أو قريب عندما تقابله، هو أين ستقضي عطلتك هذا الصيف؟ حتى كأن الجميع قد اتفقوا بينهم على أن يكون هذا السؤال، هو افتتاحية لأي حديث أو لقاء بين شخص وآخر قبل الإجازة الصيفية بأسابيع. وهذا دليل على أن مدننا أصبحت مدنا طاردة، ولا تعدو كونها إلا مجرد ورش عمل لا غير، يتم فيها جمع المادة طوال العام، من أجل قضاء شهر أو شهرين في الصيف خارجها. والأسئلة التي تنهال على من يطرح السؤال، أين ستقضي عطلتك هذا الصيف؟ هي لماذا هذا النزوح الجماعي، من مدننا الحديثة بنياناً وطرقاً، لمدن خارج المملكة قد تكون أقدم منها، وأقل منها إمكانات وموارد مالية وبشرية، وقد تكون أكثر حرارة ورطوبة من مدننا كذلك؟ وماذا ينقص مدننا، عن غيرها، من مدن العالم، ليس فقط البعيدة عن حدودنا؛ ولكن حتى الملاصقة لها، لكي نقضي بها أعز أوقات حياتنا؟ وهل نزوحنا الصيفي من مدننا لمدن خارج الحدود، لقضاء وقت راحة واستجمام، هو استراحة محارب، يسترد أنفاسه، ويعيد ترتيب أولوياته كإنسان، ليعود بعدها وينخرط في معمعة حياة مدننا الصارمة، في انتظار الصيف القادم؟ وهكذا دواليك، نقضي حياتنا ونبدد مدخراتنا رحيلاً وإياباً.

الجواب على مثل هذا الأسئلة المقلقة والمستفزة، برأيي يكمن في الجواب على السؤال التالي: لماذا فشلنا في جعل مدننا، مدنا صديقة ورؤوفة بقاطنيها، بدل أن تكون مستفزة وطاردة لهم، يتحينون أقل وأقرب فرصة لمغادرتها؟ وهل نحن فعلاً فشلنا في إدارة مدننا وجعلها مدنا حاضنة لا طاردة؟ الإحصائيات التي تخرج علينا، ليس في نهاية كل صيف، ولكن أيضاً في نهاية كل إجازة مهما قصرت مدتها، حيث إحصائيات عدد العابرين لجسر البحرين وحدة، تكشف لنا المستور، إذ بلغت في ليلة العيد وحدها في عام 2010م، أكثر من خمسين ألف سيارة، وأنفق السعوديون فيها خلال إجازة العيد فقط حوالي خمسة مليارات ريال. هذه إحصائيات منفذ حدودي واحد، ناهيك عن بقية المنافذ البرية والجوية.

الفرق بين القرى والمدن، ليس فقط في كبر المدن بالنسبة للقرى؛ ولكن في أن المدن، تدار بواسطة عقليات مدنية، أما القرى فتدار بواسطة عقليات عرفية ( قروية ). المدن تمتاز بكبر مساحاتها وتنوع قاطنيها وتعدد ثقافاتهم، ولذلك فهي تدار بواسطة عقد اجتماعي مدني، يجمع قاطنيها ولا يفرق بينهم، ويتيح لكل منهم خياراته ومتطلباته التي يراها ضرورية لحياته، ومكملة لها، ولذلك فجميع قاطني المدينة، على تنوعهم وتعدد مشاربهم، لا يشعرون بالغربة داخلها؛ ولذلك يعبرون في كل لحظة عن حبهم ومدى تمسكهم وولائهم لها. أما القرية فزيادة على صغر حجمها، فيقطنها نوع واحد من السكان، أما نوع قبلي أو عرقي أو مناطقي، وقل أن يكون متنوعا، بل هو متماثل في جنسه وثقافته، ولذلك فالقرية تدار بواسطة عقد عرفي، تم التعارف عليه بين فئة سكانها منذ قرون خلت، وما زالوا متمسكين به، ولذلك فمن المعروف عن القرى والأرياف ممانعتها لكل محدث أو جديد؛ بعكس المدن التي عرف عنها، بحثها واستجلابها لكل محدث وجديد، يزيد مدنيتها مدنية وتقدماً على ما عداها من مدن مجاورة لها أو بعيدة عنها.

ولذلك، فمن الناحية الثقافية، فقد يكثر في القرى الممنوع ويقل المباح، وتزداد الرقابة على حركة قاطنيها وسكونهم، بعكس المدن التي يكثر فيها المباح ويقل الممنوع، وتكاد تتلاشى الرقابة على حركة قاطنيها وسكناتهم، أو تعتبر محرمة من المحرمات فيها. فقاطنو القرى، بتجانسهم، يرون أنهم ركاب سفينة واحدة، ولذلك يخشون من خرقها، من أي أحد منهم، فيتكالبون عليه لمنعه، أما قاطنو المدن بتنوعهم وتعدد مشاربهم، فيعتبرون أنفسهم، ركاب قطار، صحيح أنه يسير على سكة حديدية واحدة، ويتحرك في اتجاه واحد، وبسرعة مندفعة واحدة؛ ولكنه يحتوي على العديد من العربات، كل عربة منها مستقلة بذاتها عن العربات الأخرى، ولذلك فلا أحد يخشى على خرق القطار، أو يفكر أن عمل أحد سيؤدي لخرقه.

المدن، بسبب ضخامتها وكثرة وتنوع عدد قاطنيها، تضبط ويحفظ أمنها بواسطة مؤسسات عسكرية احترافية، تطبق قانونا مدنيا معلنا ومعلوما للجميع، يحفظ أمن وسلامة سكانها، ويصون حقوقهم ويمنع أو يردع التطاول عليها، أما القرى لصغر حجمها، ومعرفة قاطنيها بعضهم ببعض، فتضبط ويحفظ أمنها بواسطة جهات رقابية، شبه عسكرية، تطبق أعرافها وقيمها المتعارف عليها بين سكانها، ولو كانت مضادة للحقوق، كما هو متعارف عليه في ثقافة المدن؛ ولذلك فمن النادر أن تحتفظ القرى بشبابها، الذين يغادرونها عند أقرب فرصة للعيش في المدن القريبة منهم أو البعيدة عنهم.

تشخص وتعالج مشاكل المدن الاجتماعية بواسطة مؤسسات علمية ومدنية وعامة، تضم متخصصين في علم الاجتماع وعلم النفس والإنثروبولوجيا والتربية، عبر بحوث ودراسات علمية تفصيلية محترفة، توضع أمام قادة إداريي المدن، ليأخذوها في عين الاعتبار، في خططهم التطويرية والتنموية المستدامة لمدنهم، أما مشاكل القرى فتعالج بواسطة أهل الخبرة في شؤونهم وأعرافهم من أهل الحل والعقد لديهم، حيث ينعدم المتخصصون فيهم، وتحل عن طريق التسامح والتراضي، و"حب الخشوم"، وترحيل وتأجيل الأزمات فيما بينهم.

ومن سلبيات المدن غلاء المعيشة والزحام والضجيج والتلوث البيئي، والضغوط النفسية والاجتماعية؛ ولكن يعادلها كإيجابيات، توفر الخدمات الضرورية من تعليم وتطبيب وفرص عمل ومرتبات عالية، وأماكن ترفيهية متنوعة، يحظى بها قاطن المدينة، مما يخفف عليه وطأة سلبياتها، أو يجعلها محتملة. ومن إيجابيات القرى خلوها من الزحام والضجيج والتلوث البيئي، وغلاء المعيشة؛ ومن سلبياتها عدم توفر الخدمات الضرورية والترفيهية التي تتوفر في المدن.

ما ذكرته أعلاه هو الفرق بين المدن والقرى، في العالم؛ ولكن هل مدننا فعلاً تدار كمدن أم كقرى كبيرة؟ النزوح الموسمي من مدننا، يدل على أن مدننا تدار كقرى كبيرة لا مدن كبيرة. فلا نصيب لنا من المدن إلا سلبياتها لا غير، وعدم تمتعنا بإيجابياتها التي ينعم بها سكان مدن العالم، حيث إن الممنوع في مدننا أكثر من المسموح فيها، والرقابة مشددة فيها، لدرجة الخوف، من أن يلقى القبض عليك، بحجة مخالفة العرف ( القروي)، وليس النظام والقانون المدني المكتوب والمتفق عليه، ناهيك عن طقس مدننا الصحراوي المثير للغبار والأتربة. إذاً فبمقارنة قرانا بمدننا، تجد أن إيجابيات السكن في قرانا أكثر من إيجابيات السكنى في مدننا، وسلبيات السكن في مدننا تجمع بين سلبيات السكنى في المدن والقرى معاً، ولذلك فإذا لم يتم تدارك إدارة مدننا كمدن حديثة، لا كقرى كبيرة، فالهجرة من مدننا الدائمة وليست الموسمية ستكون خيارا وحيدا لكثير من سكانها القادرين على ذلك، حيث الكثيرون يخططون لفعل ذلك، ولا أدل على ذلك من انتظار عدد لا بأس به، ممن أعرفهم، أو أسمع عنهم، حلول بداية تاريخ تقاعدهم المبكر على أحر من حريق صفيح مدننا الرابضة فوقه، للهجرة الدائمة للعيش في مدن تدار بإمكانات وثقافة مدنية، لا مدن تدار بإمكانات وثقافة عرفية قروية.