بعد مقالتي، منذ أسابيع، عن قسوة الفقر في بعض أحياء جدة، وصلتنا أخبار الحرمان الحقيقي من الشرق، تنبيها، فحمدنا الله عن الفقراء، هنا، فهم ليسوا هناك - "الكشف عن شبكة من اللصوص ومصاصي الدماء تتاجر بأعضاء المحرومين من البشر في الهند". وعلى الإنترنت، هالني حجم الأسى الذي يلاقيه الإنسان على يد أخيه في كل مكان. لم يقتصر الأمر على الهند بل ينتشر، كورم، في كل أرجاء العالم، وعبؤه يقع، دائما، على المكبلين في أغلال الفقر، في الفلبين، وبنجلاديش، وفي أفريقيا وباكستان، وحتى أحياء الفقراء ومجمعات "القيتو" في أوروبا الشرقية لم تسلم.

لحظة يعيشها الإنسان، عندما تصدمه هذه الأخبار، وتحيل الدنيا في عينيه إلى ظلام دامس، وتجعله يتخبط في أحاسيسه، ويتفجر غضبا من الظلم الذي يراه. كيف يجرؤ من له ضمير، وفي شريانه دم، على قتل شاب في مقتبل العمر، أو سلب فتاة في سن الزهور، عمرها، كي يزيد في عمره، على ما يظن، بضع سنين؟ هل يهنأ بعيش، من يعرف أنه يمشي بكلية إنسان آخر، يصارع الموت ويعاني الأوجاع بسببه، أخذ كليته وذهب، وشكره بحفنة من الدولارات، ومضى وكأن الآخر نكرة؟

في عالم البؤس، في سوق تزدهر ويتزايد حجمها يوما بعد يوم، يتداول سماسرة البغض أعضاء الإنسان وكأنما يروجون لقطع السيارات. كيف يغمض جفنه ويستسلم للنوم من يعرف أن غريمه صريع الفراش يتلوى من الأوجاع؟! كيف يهنأ بعيش من كانت وجبته من عمولة على حياة فقير؟! إنها الحياة في سجن الثراء.

من كانت تلك التي خرجت تبيع كليتها لتنقذ ابنتها بعد أن تناولت الأخيرة كمية كبيرة من مبيد الحشرات، في محاولة انتحار؟ نكرة في ديوان التجار. وفي المستشفى التي ترقد فيه ابنتها، خيروها بين توفير ألف دولار في الحال أو نزع أسباب العلاج وترك ابنتها تموت... ما أقسى أغلال الفقر! ألف دولار أمريكي، لا سبيل إليها في ملجأ ضحايا التسونامي، ولن تجدها إلا بأيدي تجار الأعضاء، فاتجهت مباشرة إلى هناك وتمت الصفقة.

شقوا عن بطنها، وباعت إحدى كليتيها لثري، في الخليج أو في أوروبا الغربية، أو أميركا، أو من جاء من ماليزيا أو اليابان، فمن هذه المناطق تأتي غالبية المتسوقين لقطع الغيار الآدمية. ولأن الأعضاء البشرية تتحرك في اتجاه واحد، من أسفل إلى أعلى، وكأنما تطفو على الدولار، فلن تجد لها أثرا إلا في المجتمعات المحرومة. دائما وأبدا يدفع المحرومون تارة من أعضائهم وأخرى من أرواحهم قرابين ترضي الأغنياء، وتؤمن للفقير الرغيف، في زمن المساواة، وببركات هيئة الأمم!

لسنين، كانت ولا تزال الهند أكبر مستودع لأعضاء الإنسان، بخسة الأثمان، لكن المستودع الأكبر على الإطلاق يقع في الصين التي "يتبرع" فيها المحكوم عليهم بالإعدام بكل أعضائهم، وما يمكن تدويره من مخلفات الموت، بدءا بقرنية العين والكلية والقلب إلى الرئة والكبد والبنكرياس. أسعار السلع هناك تفوق قليلا تلك التي تجدها في الهند، وتقل عما هو في تايوان أو كوريا الجنوبية. إنها السوق الحرة وأحكام العولمة، فلابد من تناسب الأسعار عكسيا مع شدة الحاجة وزيادة الحرمان الذي تعانيه المجتمعات الفقيرة ... من يقدمون أكبادهم لقاء لقمة العيش، وفاتورة الدواء. هذا في زمن التشدق بحقوق الإنسان وبكرامة الإنسان وبحرية الإنسان. وويل للإنسان من أخيه الإنسان.

يمكنك أن تحصل على كلية بخمسة عشر ألف دولار من باكستان، بينما تدفع في الصين خمسة وستين، وفي العراق تجدها بعشرين، ويمكن أن تجد لنفسك قلبا في سنغافورة أو كوريا الجنوبية أو تايوان، والسعر هناك مائتان وتسعون ألفا، وإن شئته صينيا فستون. هكذا، وكأنما نحن في مزاد لأثاث مستعمل! أما في الولايات المتحدة وأوروبا، فلنقل الأعضاء أسعار خيالية بسبب تكاليف العناية الصحية خلال فترة انتظار موت المتبرع، إذ لا سوق للنخاسة هناك، وليست هذه تبرئة، فكثير من المتسوقين لقطع الغيار الآدمية يأتون من هناك. قصص من عالم غريب. شعرت بكآبة وأنا أكتب هذا المقال، وكأنني شريك، وكأنما يدي تقطر دما من تلك الأعضاء المنهوبة.

بلغت وقاحة بعضهم أنهم ينظّرون ويبررون، بل ويطالبون بشرعنة المقايضة بآلام الفقراء، وفتح الأسواق. ويتحذلقون بسؤالهم؛ أيهما أفضل، أو أيهما أقل ضررا، أن تموت البنت أمام عيني أمها، أم تنقذها أمها وتمشي بكلية واحدة بقية عمرها؟ ثم يطرح أحدهم نظريته السوقية؛ فيرى أن الفقير بإمكانه العيش بكلية واحدة وقليل من الأوجاع، بينما تنازله عن الأخرى، يصلح شأن عائلته ويرفع من مستوى معيشته، أضف إلى ذلك أنه يسعد إنسانا آخر، وينقذه من الموت. نسي أننا نتجاهل الفقراء ونتركهم دائما للموت يسوي أمورهم إذا مرضوا. أما اختطاف الأطفال والاتجار بهم لأعضائهم أو قتل الأجنة وحصد خلاياها الجزعية للأغراض الطبية، فقصص مروعة أخر، في عالم الخزي وكتب الشقاء.. هذا هو إنسان اليوم يتعرى في عالم المال والأعمال!

رحم الله إمامنا الشعراوي، حرم نقل العضو، وأطلق التحريم.