بمواراة جسده الطاهر الثرى، انتهت فصول حكاية الطفل "أحمد"، وبقيت روحه البريئة الطاهرة حبيبة الله تطل على واقعنا المخجل، تهز نعش تجبُّرنا وغينا وضلالنا، تنهر فينا تكلس مشاعرنا، وتسليم لا مبالاتنا، تُسائل بحكمتها الوضيئة ظلام نفوسنا الجبارة المستهترة بأمانة الروح والجسد "بأي ذنب قتِلْت؟!"، أعذرنا أيها الوضيء بحكمة الطهر الملائكي "أحمد"، فضمائرنا سابحة في سمادير غيِّها، متسربلة ثياب اللؤم، ومتوسدة غيبة الجهالة، ومنغمسة في لهو التعدد الذي أعماها عن تقلب براءة طفولتك في سهد جازعٍ، تجرعتَ فيه صنوف العذاب ونحن عنك غافلون، فهل تطهرنا كلمة آسفون؟! مقتل أحمد الصغير "حبيب الله" ليس جريمة كالجرائم الواقعة في أي مجتمع طبيعي؛ لا يدّعي المثالية، ولا يركن للفضيلة المتوهمة، لا.. أبداً، فهو كارثة إنسانية أخلاقية ثقافية ليست الأولى- وإن اختلفت التفاصيل- ولن تكون الأخيرة، ما دمنا مجتمعاً لا يتعلم من مصائبه معرفة سبل أمانه، فإيماننا السرمدي بمقولة "مجتمع الفضيلة"، واستمرار رزحنا تحت وهمها؛ يشلنا عن التفكير في وضع مغاير، ناهيك عن البدء حقيقةً في التغيير.

الجرائم، كل الجرائم، وإن اختلفت درجة انحطاطها وقسوتها؛ فإنها لابد أن تعكس محيطها، والاحتياطات التي اتخذت اتقاء وقوعها، ومستوى وعي المجتمع الذي وقعت فيه، وهذه المصادر الثلاثة الرئيسة يفترض أن تحقق مجتمعةً الأمن على النفس، الذي هو ألزم الضرورات الخمس الشرعية، والتي يكوِّنها: (الأسرة، والقوانين، وثقافة المجتمع). نعلم أن زوجة والد أحمد هي القاتلة وباعترافها الذي قامت بتمثيل تفاصيل وحشيته، لكن ذلك لا يعني أنها وحدها المجرمة، فكل مكونات المثلث السابق اشتركت بهذه الجريمة المتوحشة بشكل أو بآخر، فمن حرم أم أحمد أمومتها واستخدم أبناءها سياطاً لجلدها مشترك، ومن استنجدت به أم أحمد فلوّى عنقه وأصرّ واستكبر عن نجدتها ونصرتها لحقها مشترك، ومن مضى مع أهواءٍ استقرت في أعماق ثقافته الموروثة الموسومة بزهو الذكورة الجبارة ليقضي بحرمان أمٍّ حضانة أطفالها مشترك.. الوضع بعمومه حاصر الأم وسلبها حقها الطبيعي، فهل ثمة بريء فيه؟! أسمعتم عن جريمة خطفٍ؛ المجرمة فيها أم المخطوف؟! إنها التهمة الاستباقية التي وجهها الأب لوالدة أحمد في بداية القضية، ولم يُحاسَب عليها حتى بعدما غير أقواله؛ فانقلبت من اتهامها بالخطف إلى تبشير لها بالأخذ بثأر ابنها، بعد انكشاف الجريمة؟! فضمن أقوال هذا الوالد أن "والدة أحمد مُتهمة بخطف ابنه، وأنها تُريد بذلك تغيير مسار القضية لصالحها حتى تكسب حضانته، باعتبار أنها تركت ابنها وبنتها ولم تسأل عنهما إطلاقاً منذُ أربع سنوات"، وهو الأمر الذي أنكره "خال الطفل مؤكداً أن والدة أحمد طالبت بحضانته أكثر من مرة، وقدمت شكاوى عديدة، إلا أن أحداً لم يعر شكاواها أي اهتمام"! وسؤالنا لهذا الأب: إذا كانت الأم لم تسأل عن أبنائها أربع سنوات، فما حاجتها لخطفهم إذن؟! ثم وبعد أن ثبت بطلان تهمته نقلت عنه "الوطن" قوله: "بشروا طليقتي بأنني لن أرضى إلا بالحد الشرعي ولن يذهب دم أحمد هدرا"! تغير مواقف والد أحمد- بالنسب لا بالأبوة بالطبع، وما أكثر هؤلاء بيننا- وتغيير أقواله واتهاماته لوالدة أحمد المكسورة الجناح لا يسأل عن تناقضاته أحد، بل ولا تعتبر مواقفه وتصرفاته الأصل الذي أوصل المجرمة لقتل الطفل البريء "أحمد"! اتهامات الأب وبشراه سواءٌ عند والدة أحمد، فلن تبرد نار لوعتها وحسرتها على مقتل أحمد وفقد أخته، وهاهو وبعد قتل جنينها وبهذه الوحشية والعنف، يواصل إمعانه في الظلم والبغي، فيبعد ابنتها ريتاج للباحة بدل أن يردها لحضن أمها! لا غرابة؛ فإحساس الأم المفجوعة لا وزن له في أبجديات هذا الرجل الجاحد لحق الأمومة تحت سمع وبصر مجتمع لا يبصر للأب خطأ ولا يسمع فيه قدحاً!! ولا عجب فهو مجتمع مغيب تحت إرث السلطة الأبوية، التي لا تسأل عن شيء وغيرها يُسأل ويُتهم ويرمى بالباطل!! وفي ظل تعتيم تام على حالة الأم وحقها؛ ينقل الإعلام كل التحولات في موقف هذا الأب، فهو هنا يتباهى باستبدال الأم الحقيقية بأخرى متحدياً بفعلته كل قوانين الأرض والسماء "زوجتي الأولى، جزاها الله ألف خير، هي مَنْ تبنت تربيتهما، وخصوصاً أحمد، إبان كان عمره وقتها لم يتجاوز ثلاثة أشهر" وفي رواية ثمانية أشهر، "وتولت رعايته حتى أصبحت والدته، ولا يعرف غيرها". مؤكداً أن ابنه لا يعترف إلا بها! وبعد أن ثبتت جريمة زوجته نرى هذا الوالد الهاتك لأقل حقوق الطفولة والأمومة المجاهر بحرمان أم من أبنائها بلا خوف من الله ولا خشية من عقاب، يتساءل "أيعقل أن زوجته هي التي قتلت ابنه ومثلت اللوعة على اختطافه، وهي أول من سمعت كلمة (ماما) منه". إنه يتعجب بعد أن أرسى دعائم المغالطات فخلطت الموقف عليه، رغم أن البناء على الجريمة كانت نقطة انطلاقه منه، فهو الذي سرق حق الأم الحقيقية بأكاذيبه، وهو الذي أوكل لزوجته تربية أبناءٍ أمهم حية ترزق، وهو من ضلل الأطفال الأبرياء فحرمهم من حق مناداة أمهم الحقيقية بـ"أمي" ليسبغوا قدسية النداء على تلك القاتلة المتوحشة! فهل يحق التعجب لمن هذه جرائمه!! إن العجب لمن يصافح الظلم ويصاحبه، ثم يأتي شاكياً إفرازاته! يواصل الأب تعجبه قائلاً "لا أستطيع أن أستوعب ما فعلته زوجتي، التي تحولت من ملاكٍ إلى وحش في ليلة لا أستطيع نسيانها، أنا مصدوم.." مصدوم فيها! ومتصالح مع ممارساته اللاإنسانية، فأين حق طفل يموت وهو لا يعرف أماً له غير تلك المجرمة التي مارست صنوف التعذيب عليه، حتى وهي تنهي حياته؟ وأي صدمة لطفولته الشاردة في خوفها وفزعها!! وأي جرم أكبر اقترفه الأب وهو يلقّن معنىً للأمومة عاشه أحمد ومات مغشوشاً به!! إلى أن ألقاكم لرصد ما تبقى من رؤية واقع الملائكة والشياطين الحقيقي؛ أود أن تشاركوني بهذا الدعاء الحار لأجل أحباب الله: "عظّم الله أجر الطفولة وأحسن عزاءها".