سيكون موضع طرحي اليوم عن التلوث الطبيعي للمياه الجوفية ( مياه الآبار) بعنصر الزرنيخ Arsenic ، وهذه المعضلة في الحقيقة يعاني منها أكثر من130 مليون نسمة من سكان الكرة الأرضية التي يعتمد بعض سكانها في مشربهم ومأكلهم على مياه الآبار. ومن الدول التي تعاني من هذه المعضلة الولايات المتحدة الأميركية والهند والصين وباكستان وشيلي والأرجنتين وبنجلاديش، وتعتبر الأخيرة الأكثر تعرضا للتلوث بعنصر الزرنيخ، حيث أعلنت منظمة الصحة العالمية( "World Health Organization "WHO) أن التلوث الطبيعي بعنصر الزرنيخ في بنجلاديش من أكثر فواجع التلوث الطبيعي في العالم، حيث بلغ عدد المصابين بهذا التلوث اللعين حوالي 24 مليون نسمة, و هناك أكثر من 65 مليونا معرضون للإصابة بهذا التلوث القاتل. وهناك أمران يزيدان من تعقيدات التلوث بعنصر الزرنيخ، الأمر الأول هو ارتباط هذا التلوث بالتغيرات المناخية، أو ما يعرف بظاهرة الاحتباس الحراري، وسأتطرق لذلك بشيء من التفصيل لاحقا، أما الأمر الثاني فهو تواجد هذا العنصر، أي عنصر الزرنيخ تحت سطح الأرض، وهذا يصعب أمر التعرف عليه أو التنبؤ بسلوكه.

وحيث إن هذا النوع من التلوث مرتبط ارتباطا وثيقا بالتغير المناخي العالمي، خاصة في حزام الصحراء الممتد بين خطي عرض 12 شمالا إلى 32 شمالا في النصف الشمالي للكرة الأرضية ومساحات شاسعة من نصف الكرة الجنوبي، ويشمل كلا من الصحراء الكبرى الأفريقية وصحراء الربع الخالي والدهناء والنفوذ وصحراء آسيا الوسطى والصين إلى صحراء الجنوب الأميركي وأميركا الجنوبية، فإن جميع الدول الواقعة على هذا الحزام الصحراوي تعاني وسيعاني الكثير من سكانها من التلوث بعنصر الزرنيخ، وذلك لاعتمادهم على مياه الآبار، لذلك أرى أن جزيرة العرب التي تقع على هذا الحزام الصحراوي ويعتمد الكثير من سكانها في مشربهم ومشرب أنعامهم ومأكلهم ومأكل أنعامهم على مياه الآبار، لا يستبعد مطلقا تعرضهم وتعرض مواشيهم للتلوث بمادة الزرنيخ اللعين، وكل ما أطلبه وأنادي به من هذا المنبر أن تهب الحكومة بجميع مؤسساتها، ممثلة في وزارة الصحة و وزارة الزراعة والرئاسة العامة للأرصاد وحماية البيئة ووزارة المياه والكهرباء، وأن تتعاون فيما بينها بعمل برنامج جاد في الكشف عن الزرنيخ والملوثات الأخرى في مياه آبارنا.

لكم أن تصدقوا أن المتعهد في الكشف عن التلوث بعنصر الزرنيخ في جميع بنجلاديش هو جامعة كلكتا بمعاونة منظمة الصحة العالمية، وقد أبلت هذه الجامعة بلاءا حسنا في الكشف عن تلوث هذا العنصر الخبيث وحماية الملايين من أبناء بنجلاديش، ميزانية هذه الجامعة لا تقارن بما تدفعه حكومتنا لأصغر جامعة في المملكة العربية السعودية، ولا أعلم متى ستنخرط جامعاتنا في التصدي لمشاكلنا البيئية، التي أصبحت تمثل تحديا خطيرا لأبناء هذا الوطن الكريم.

و سأحاول جاهدا تبسيط الميكانيكية التي تقوم بها الطبيعة بتلوث مياه الآبار بعنصر الزرنيخ. من المعروف أن معظم الطبقات الطينية تحتوي على العديد من العناصر الكيمائية، منها عنصر الكبريت على هيئة كبريتات Sulfate لعناصر مختلفة، منها الحديد، كما تحتوي أيضا على عنصر الزرنيخ. نسبة هذه العناصر تختلف من منطقة لأخرى، هذه الكبريتات تختزل بواسطة البكتيريا غير الهوائية Anaerobic Bacteria إلى كبريتيد الهيدروجين Hydrogen Sulfide عنصر الحديد المتواجد في التربة يتحد مباشرة بكبريتيد الهيدروجين ليكون مركب كبريتيد الحديد Iron Sulfide ، هذا المركب الجديد يمتص على سطحه الخارجي عنصر الزرنيخ ليكون فيما يعرف باسم باريت الزرنيخ Arseno-Pyrite وهذا المركب الجديد يظل ثابتا غير قابل للذوبان في الماء، طالما كان بعيدا عن غاز الأكسجين، ولكن عندما يتغير المناخ ويقل سقوط مياه الأمطار من الطبيعي أن تنخفض المياه الجوفية في هذه الآبار، وهذا يعني تغلغل الهواء الجوي بما يحمله من غاز الأكسجين في الآبار ليصل إلى طبقة باريت الزرنيخ فيؤكسدها فيتسبب ذلك كيمائيا في فصل عنصر الزرنيخ عن كبريتيد الحديد وبذلك يتم تلوث مياه الآبار بعنصر الزرنيخ. هذه الميكانيكية تؤكد ارتباط تلوث مياه الآبار بالتغير المناخي والتقلبات الجوية، كما توضح الدور الكبير الذي تقوم به البكتيريا في تلوث مياه الآبار بهذا العنصر الخبيث. وبعد هذا السرد العلمي الذي لا ينكره عاقل، هل تعتقد أخي الكريم أن مياه الآبار في جزيرة العرب في منأى عن التلوث بعنصر الزرنيخ؟ ولماذا قامت الدنيا عندما رفض الإنجليز دخول مياه زمزم إلى ديارهم، بعد أن ثبت لهم تلوثها بعنصر الزرنيخ؟.. مياه زمزم لا شك أنها مياه مباركة، ولكن هل هي معصومة عن النواميس الطبيعية التي خلقها الله سبحانه وتعالى؟!!! أنا من هذا المنبر أناشد وزارة الصحة، بأخذ هذا الأمر مأخذ الجد، وأطالب أن تشرع الوزارة في أسرع وقت بأخذ عينات من أظافر وشعر وبول جميع المواطنين السعوديين الذين يعتمدون على مياه الآبار في شربهم ومأكلهم، للكشف عن مستويات التلوث بعنصر الزرنيخ، خاصة بين الأطفال. كما أناشد وزارة الزراعة بأخذ عينات من الإبل والمواشي التي عادة ما تموت بالعشرات للكشف عن عنصر الزرنيخ في لحومها وشعرها وبولها، وأرجو ألا ننتظر كثيرا حتى لا تنزل بنا الفاجعة التي نزلت بإخواننا البنجالة، ومن العجيب والغريب أن هناك دراسات علمية وأدلة قوية تشير إلى ارتباط معدل انتشار داء السكري بتلوث مياه الآبار بعنصر الزرنيخ، وهذا ما سأناقشه في المقال القادم.