الآن، على الواعظ والفقيه الذكي الذي يريد أن يحافظ على حضوره الإعلامي أن يسارع إلى تغيير خطه فورا، وإلا سيتحول إلى رجل قادم من زمن الكاسيت في عصر لن يجد له فيه موطئ قدم، وستتحول برامجه إلى مجرد فقرات لتغطية الفترات التلفزيونية الميتة التي لا تحظى بأية نسبة مشاهدة، ولكم أن تقارنوا بين ما يقدمه أحمد الشقيري مثلا، وكيف استطاع أن يقدم نموذجا جديدا للمعرفة الدينية اليسيرة، وأولئك الذين ما زالوا مجرد (حكواتية) يحفظون قصصا من التراث ثم يسكبونها على أسماع الناس، مع إضافة حركات مسرحية وأداء خطابي منفعل وبدائي. لا يمكن الجدال بأن كثيرا من نجوم الفضائيات من الدعاة أصبحوا يتصرفون كنجوم تلفزيونية، ويتعاملون مع شهر رمضان مثلما تتعامل معه شركات الإنتاج الفني، ويتزاحمون على تقديم مشروعاتهم واستقبال العروض الإنتاجية كما يحدث مع فناني الدراما تماما، لكن بضاعتهم لم تعد مغرية كما كانت، فثمة جيل جديد وصوت جديد يستطيع أن يقدم معرفة دينية مرتبطة بالحاضر والإيقاع المعاصر، معرفة لا تتشنج وهي تحاول إقناع العالم والناس من حولها بحرمة الموسيقى مثلا، وإنما تجتهد لربط قيم العمل والمدنية بقيم الدين ونصوص القرآن الكريم وأخلاق النبي وشمائله الحميدة. أحمد الشقيري هنا يمثل أبرز التجارب وأكثرها حداثة، وليس من الغريب أن يتعرض لهجوم مستمر، لأنه بات يقدم خطابا يسحب البساط من تحت أقدام (الحكواتية) خاصة الذين يحملون قصصا نعرفها جميعا، أو بإمكاننا أن نعرفها جميعا، لكنهم لا يقدمون أية ربط معرفي تتحول معه تلك القصص إلى وازع للأمام وليس للخلف، وبينما يفتقدون في خطابهم الوعظي لأي ربط أو مقارنة مباشرة مع الواقع، يتجه خطاب الشقيري لإيجاد ربط مباشر وحي مع الواقع، بمعنى أنه خطاب تحفيزي للانطلاق والانفتاح، بينما خطاب الوعظ التقليدي مكرس للتراجع والخوف والمحافظة.

كانت أبرز العوامل التي أدت لانحسار خطاب الوعظ التقليدي أنه أخذ دور الحارس والمدافع والمحذّر الذي يرى كل خطوة للأمام مشوبة بالحذر والمعاصي والمنكرات، ولذلك استنزف لياقته كثيرا في الدفاع عن قضايا بات وعي الشارع فيها أكثر تقدما من رأي الواعظ، فمثلا تراجعت المواقف الاجتماعية الرافضة لقيادة المرأة للسيارة، في الوقت الذي ما زالت تصر فيه مختلف الأصوات الوعظية على مبرراتها ومواقفها القديمة من تلك القضية، ولذا تجاوز الشارع تلك الأصوات، وبات يرى نفسه متقدما عليها، ويراها عبئا عليه. يتحول الوعظ حين يفتقد للعقلانية والمنطق والارتباط بالواقع إلى مجرد بضاعة، يجتهد صاحبها في تسويقها حتى لو أدى ذلك للوقوع في أخطاء علمية وشرعية، وكتب التاريخ تحمل كثيرا من الشواهد على ذلك، وقد أشار الإمام ابن القيم إلى أن من مظاهر التلبيس التي صنعها الشيطان على كثير من الوعاظ أن أدى بهم إلى الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما يؤكد بالفعل تحول الوعظ إلى بضاعة يسعى صاحبها لترويجها، وكلنا عاصرنا في التسعينات ـ فترة ازدهار الوعظ ـ تلك القصص الخيالية عن الشجاع الأقرع الذي ظهر في قبر رجل كان لا يصلي، وذلك الشاب الذي توفي في حادث وحين تم تلقينه الشهادة قال: (من بادي الوقت وهذا طبع الأيامي) وكلها قصص تهدف للمحافظة على عنصر التأثير وإبقائه. وحتى بعض التحسينات التي تطرأ على خطاب الوعظ إنما جاءت سعيا لترويجه، ومن أبرز تلك النماذج ظهور الواعظ (الفرفوش) صاحب النكت، والشيخ الفلة، الذي يحاول أن يستعير بعض التعبيرات الشبابية ظنا منه أنه يجد منافذ جديدة لبيع سلعته، بينما يظل المضمون كما هو، مجرد وعظ تحتشد فيه المقولات التراثية، والتي يستخدمونها أكثر مما يستخدمون النصوص القرآنية. إذن فالوعظ لم يستطع أن ينتج معرفة، وذلك هو الفرق بين الواعظ من جهة، وبين الفقيه والمفكر الديني من جهة أخرى، وهو ما يفتح الباب واسعا لنماذج الخطاب الديني الموجه الذي يستخدم من الوعظ صفته التأثيرية، ومن المفكر صفته الاستنباطية البحثية، القائمة على تحفيز القيمة الدينية على أنها قيمة شجاعة ومدنية وعالمية. لا يستطيع مناهضو خطاب الشقيري أن يصفوه بالعلماني أو الليبرالي كما يفعلون مع الكتاب، فاتجهوا للبحث في تفاصيل تافهة لا علاقة لها بخطابه، كالقول بأنه يمتلك مقهى في جدة يبيع منتجاته بأسعار عالية. يا للمأخذ القوي.. لا يستطيع حملة الوعظ التقليدي إنتاج أي خطاب معرفي، وفي ذات الوقت ينشغلون بمهاجمة كل خطاب ينتج معرفة لا تستند لأدواتهم، لأنهم فقط أصحاب بضاعة يرون في غيرهم مجرد منافسين لهم، خاصة مع الكساد المستمر الذي تشهده بضاعتهم. كما أن الإسلام أضخم وأكبر من أن يتم تقديمه على أنه مجرد حكايات قديمة.