يستخدم مؤشر أمية القراءة والكتابة في مجتمع ما، لقياس مدى كفاءة النظام التعليمي في هذا المجتمع، ولقد سجل العالم العربي أرقاماً مفزعة في هذا المجال، فكما نشر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2006 أنه على الرغم من ارتفاع معدل القراءة والكتابة بين البالغين (15 عاماً فأكثر) من 30% عام 1970 إلى 64% عام 2003 إلا أن معدلات الأمية في الوطن العربي لا تزال أعلى بقليل من المتوسط الدولي في البلدان النامية الأخرى، وليس أقل منها إلا أفريقيا جنوب الصحراء ! ومن الأرقام المفزعة أن عدد الأميين المطلق (الذين لا يجيدون القراءة والكتابة) في العالم العربي في ازدياد! وأرقام كثيرة يمكن أن تذكر في هذا المجال: معدل القيد في التعليم العام، معدل انتشار التعليم العالي،...ولا شك أن هذه الأرقام لها دلالاتها ولكن إلى أي مدى؟ وما مدى صدقية هذه الدلالات؟

والحق أن هذه الأرقام لا تعبر عن المشكلة ولا تذكر كل الكلمات! فهل أربع سنوات من المرحلة الابتدائية (السنوات التي تحدد لمحو الأمية) كافية فعلاً لمحو الأمية؟ والأخطر هو وجود مؤشرات أخرى لا يتطرق لها أحد! فهل تقاس أمية الحساب؟ وما بالكم بالأمية الثقافية؟ وما بالكم بالجهل الوظيفي ؟ وأمية اللغة الإنجليزية وأمية الحاسوب وقواعد البيانات، وأمية الإنترنت وأمية الاتصالات الحديثة؟ والأخطر والأهم أمية الوعي الحضاري؟ يقدر بعض الخبراء أن الأمية بمفهومها الثقافي الوظيفي قد تصل إلى 80% أو أكثر من مجوع السكان في العالم العربي!

يقول الدكتور أحمد الترتوري في ذروة كتابه الرائع (نظرية المعرفة والواقع التربوي العربي المعاصر) صفحة 482: (..وسيبقى التعليم عاجزاً عن المساهمة في التنمية، حتى لو تحسنت أداءات التعليم في البلدان العربية ضمن المؤشرات الكمية، فعلى الرغم من تحسن بعض المؤشرات الكمية للتعليم في معظم البلدان العربية، بل والنوعية أيضاً في بعض الأحيان، إلا أن حالة التخلف ما تزال تسجل حضورها في المجتمعات العربية. حتى ولو افترضنا مزيداً من التحسن الكمي والنوعي في التعليم العربي، فإن التوقعات تشير إلى عدم قدرة هذا التعليم على إزاحة حالة التخلف الجاثمة على العقل والواقع العربيين. والسبب في ذلك يعود إلى تخلف الوعي العربي نفسه ، ذلك الوعي الذي تشكله الابستمولوجيا (المعرفة) وتوجه مساره. بعبارة أخرى، فإن التعليم ليس هو المشكلة في حد ذاته، بل إن المشكلة تكمن في تخلف الوعي العربي نفسه، ومرد هذا التخلف عائد إلى نظرية المعرفة التي تشكل هذا الوعي، لأن إعادة امتلاك الواقع معرفياً هو السبيل لإعادة امتلاكه عملياً)، وفي فصول أخرى من الكتاب أسهب الكاتب معتمداً على تقسيمات الجابري للمحتوى المعرفي في الفكر الإسلامي الذي يتكون من : البيان والعرفان والبرهان، أسهب في عرض الملامح الرئيسية لنظرية المعرفة في الفكر الإسلامي، وخلص إلى أن سبب التخلف الرئيس هو النكوص إلى البيان والعرفان، وشرط النصر والتقدم هو العودة إلى البرهان.

وهناك مفهوم خطير تجب الإحاطة به، فليس التعليم فقط لكي يهيئ خريجيه للوظيفة وحسب مغفلاً الجانب المهاري والمهني بشخصياتهم، إذ ستصبح وظائف التعليم – كما يقول الدكتور خلدون النقيب:( مجرد إبعاد للطلاب عن الشوارع، ومبرراً لتأخير سن الزواج، ومجرد إعطاء شهادة بأن شخصاً ما قد انتظم في المدرسة وتخرج فيها، وبالتالي فهو مؤهل لشغل وظيفة ما...وسيصبح التعليم مجرد تهيئة للأجيال القادمة ليس على الاختلاس والتدليس بصورة ذكية وحسب، وإنما اكتساب القدرة على تبرير الاختلاس والتدليس، وإخراج أجيال من الشباب تساق كوقود لمعارك التعصب الديني والإثني، في مجتمعات لا يستطيع مواطنوها بسبب النقص في تعليمهم استشراف مستقبل أفضل، فهم لا يقدرون أن يفلتوا من أغلال الواقع المادي المحيط بهم، ومن براثن الجهل بالأمور وما يولده هذا الجهل من تعصب وخنوع، فليس كل الجهل عدم الإلمام بمبادئ القراءة والكتابة!).

وإذا كان الأمر هكذا إذن فإن ظاهرة الافتخار بحمل الشهادات واقتنائها – التي ابتلينا بها في مجتمعاتنا- دون مراعاة الكفاءة والموهبة والإنتاج تكون مفهومة تماماً، فنتائج التوسع في التعليم العالي بدون سياسة تعليمية تربوية منهجية واضحة تؤدي إلى تعليم الموهوب وغير الموهوب، وتعليم غير الموهوبين هؤلاء لن يتحول إلى تشويه وتعجيز لهم فقط – كما يقول الدكتور الترتوري- ( بل إلى مُشوِهين ومُعَجِزين لغيرهم، أي إلى أن يفعلوا بغيرهم ما فعله غيرهم بهم من تشويه وتعجيز. بعبارة أخرى، فإنهم سيتحولون إلى أجهزة تشويه وتعجيز في مجتمعهم، وذلك بمجرد امتلاكهم صكاً من المجتمع ومن المؤسسات التعليمية العليا يشهد بأنهم أصبحوا علماء، وهذا الصك هو الشهادة العلمية التي أصبحوا يمتلكونها!) ترى كم عدد هؤلاء في كلياتنا وجامعاتنا؟ هل يعترف أحد بهذا الواقع المر؟ هل يلتفت أحد إلى حال أعضاء هيئات التدريس؟ أم هو الهم السطحي الدائم لجل أعضاء التدريس: أشتكى فلان أم لا؟ هل دُفعت البدلات أم لم تُدفع؟ هل حدثت الترقية أم لم تحدث؟ أريد المنصب قبل أن يناله فلان؟ ولا تسل عن رسالة أو رؤية أوخطة تطوير، فهذه غير واردة في الأجندة بسبب أمية الوعي الحضاري!

إن منح الشهادة العلمية العليا لفاقد الموهبة والكفاءة يجعل حامل هذه الشهادة في بيته أو مكتبه أو جيبه- كما يقول أحد المفكرين:(مغروراً مشوهاً عاطلاً كاذباً منافقاً انتهازياً جاهلاً بكل شيء، إلا من ممارسته للجهالات، مناقضاً لكل ما تعنيه الشهادة التي يحملها، لتكون هذه الشهادة أقبح وأفدح شهادة زور وتزوير).

إن الوعي الحضاري الحق يستلزم عملاً دؤوباً يبدأ بتصحيح وتعديل آليات التفكير والنظر، بالاعتماد على العقل والبرهان، بغربلة ونفض غبار الأفكار القديمة والبالية التي أسرتنا وجففت منابع الإبداع والإنتاج، (إن التعلٌم الحقيقي هو التعلم الذي يغير سلوك الفرد وأنماط تفكيره في الاتجاهات الإيجابية، التعلم الحقيقي يفرض على صاحبه منظومة من القيم الحضارية تجعل منه شخصاً متنوراً في تفكيره وسلوكه)، إن تخلف حاملي الشهادات العليا-حتى وإن أخذت من أعتى جامعات العالم- (هو أدهى وأمر من تخلف الأمي في القراءة والكتابة، لأن تخلف المتعلم لا يقتصر على تلويث ذاته وحسب وإنما يمتد ليلوث الآخرين عبر إعادة إنتاج التخلف، بحجة أنه أصبح خبيراً أو عالماً أو مفكراً) (الترتوري – بتصرف) هل أدركتم الآن عظم المأزق الذي نحن فيه؟