لا أحد يعرف متى وكيف دخلت فكرة الوطنية كمفهوم ومصطلح معاصر إلى بلاد الرافدين، هل جاءت مع الاستعمارالإنجليزي عندما احتلها؟ أم انتقلت إليها من الثورات العربية والعالمية المعاصرة، ثورة كوبا والجزائر وغيرها؟ أم إنها صناعة عراقية خالصة مائة في المائة ظهرت عقب الانقلابات" الوطنية"العديدة التي حدثت في البلاد؟

والظن الأرجح أنها من ابتكارات العراقيين، فهم أصحاب حضارات عريقة، علموا البشرية معاني الحياة، ليسوا بحاجة إلى أحد ليأخذوا منه معنى الوطنية، بمقدورهم إنتاج الوطنية بكفاءة عالية محليا من دون الحاجة إلى استيرادها خارجيا!.. وتتميز الوطنية العراقية بنكهة خاصة تختلف عن النكهات الأخرى الموجودة في العالم العربي، ويكمن سر تميزها في أن لكل منطقة في العراق مذاقها الخاص، ففي"الشمال الكردي" لها طعم يختلف عنه في الوسط والجنوب العربي، والوطنية التي يدعو إليها "الشيعي" غير التي يدعو إليها "السني"، وقد تعني عند الشيعة حكم الأغلبية، وعند الأكراد الفيدرالية أو اللامركزية، وعند الإسلاميين السنة تعني الحكم بالشريعة بقيادة "يعربية"، وعند "البعثيين"ومن يلف لفهم تعني إعادة الحكم القومي العنصري الصارم..

لا أحد يتفق على وطنية واحدة، الكل يدعو إلى وطنيته الخاصة، وفق منظاره الخاص، هذه الخصوصية التي يتفرد بها العراقيون عن غيرهم كانت مصدر تعاستهم قديما وحديثا، الزعيم "عبدالكريم قاسم" قاد انقلابه بدافع وطني جماهيري كما كان يرى ويعتقد، وقُتل هو أيضا شر قتلة باسم الوطنية "البعثية".

ومن ذات المنطلق ومن أجل الهدف نفسه قاد "عبدالسلام عارف" ومن بعده "أحمد حسن البكر" انقلاباتهما الدموية، وأعدم "صدام حسين" نصف "درزينة" من إخوانه الوطنيين القياديين عام 1979وهو يذرف دموع التماسيح بحجة الخيانة الوطنية!

وتحت يافطة الحفاظ على "الوحدة الوطنية" قصف مدينة كاملة بالقنابل الكيماوية عام 1988، وأبادهم عن بكرة أبيهم لنفس السبب.

ولم يختلف الوطنيون الجدد عن سابقيهم كثيرا، فقد ساروا على نفس نهجهم السياسي ولكن بطريقة أكثر إرباكا وتعقيدا، بعد أن فشلوا فشلا ذريعا في إقامة مشاريعهم الخاصة.

"الشيعي"؛ فشل في التأسيس لديمقراطية "الأغلبية" وفشل "السني" في إرجاع نفوذه القديم الواسع وفشل "الأكراد" في تعميم نموذجهم الإقليمي الفيدرالي على باقي أجزاء العراق وفشل الآخرون في طرح بدائل سياسية لحل إشكالية إدارة الحكم في البلاد، بعد مرور أكثر من ثمانية أعوام على الإدارة الجديدة، لا أحد يعرف لحد الآن ماهو شكل الحكم فيها، هل هو فيدرالي لا مركزي أم مركزي منضبط ، هل هو ديموقراطي أم استبدادي، برلماني أم رئاسي؟ هل يسيره الدستور أم تديره الأحزاب والكتل أم خاضع لنفوذ الأشخاص ؟ الضبابية وعدم وضوح الرؤية السياسية من أهم سمات السلطة الحالية، وهما السبب في التخبط الذي تعانيه لحد الآن .. مهما قيل عن مساوىء"الثورتين" التموزيتين ؛ ثورة 14 تموز عام 1958 وثورة 17 ـ 30 تموز عام 1968 فقد كانتا على قدر كبير من الوضوح في الرؤية والبساطة في الطرح السياسي، كان الزعيم "قاسم" يريد أن ينشئ دولة ذات طابع جمهوري على غرار الجمهوريات الموجودة في العالم العربي، يتولى رئيس الوزراء السلطة في البلاد مع فريق وزاري كفء، وكذلك البعثيون كانوا يجاهرون بالعروبة على رؤوس الأشهاد ولايخفون شيئا عن الآخرين، بخلاف الحكم الجديد، أهدافه غامضة وسياساته غير واضحة، يريد شيئا ويضمر شيئا آخر، يعمل بالطائفية سرا ويدعي الوطنية جهرا، يسعى إلى شق الصف الوطني في الخفاء ويجاهر بحرصه على الوحدة الوطنية في العلن، مجرم عتيد يقتل على الهوية ليلا ويدعي القانون وحقوق الإنسان نهارا، مفسد غارق حتى أذنيه في الفساد مع ذلك ينادي بمكافحة الفساد والمفسدين، يتمسك بالدستور ويحتكم إليه عند الحاجة ويخرقه ويتعدى عليه كذلك عند الحاجة .. لم يتبن النهج الوطني إلا عندما كسدت بضاعته في سوق السياسة العراقية، وأخفقت خطاباته في جذب الجماهير، وكاستراتيجية لحماية مكتسباته ومنعا لسقوطه السريع، استغل بشكل سافر حاجة العراقيين إلى فعل وطني حقيقي للملمة التشرذم القائم والصراعات والفوضى المتفشية في جميع مرافق الدولة، فتحول بين ليلة وضحاها من طائفي شوفيني عتيد إلى وطني غيور لا يشق له غبار..

وإذا ما نظرت إلى قائمة الأحزاب العراقية تدهشك كثرة المنضوين تحت راية الوطنية (حزب التيار الوطني، الاتحاد الوطني، حركة الإصلاح الوطني، الائتلاف الوطني، الحزب الوطني، الوفاق الوطني، التجمع الوطني..الخ).

الكل أصابته حمى الوطنية، حتى الإرهابيون والذباحون لم يسلموا من عدواها، وأخذوا يجاهرون بالوطنية، ولكن بطريقتهم الخاصة.. مهرجان ماراثوني كبير، الكل يتسابق للوصول إلى النهاية السعيدة ولو على حساب الآخرين.