الانتخابات ثقافة وسلوك غربي بامتياز، ولم تستوطن ـ هذا إذا استوطنت أصلاً ـ في مرابعنا العربية إلا في العقود القليلة الماضية، وكل الادعاءات الساذجة التي تُساق عنوة لإثبات أن لهذه الظاهرة الحضارية الغربية جذوراً عربية وإسلامية تسقط أمام الحقيقة التي لا يمكن إنكارها، وهي أن الذائقة والطبيعة العربية لم تجد لمثل هذه الظاهرة الراقية أرضية خصبة لتمظهرها ونموها، وسط بيئة جافة في التفاصيل وفقيرة في المضامين والسلوكيات. وهنا، لا بد من الاعتراف بخطيئة كبرى يستمرئها البعض، ألا وهي الإصرار الممجوج على إرجاع كل الإنجازات والظواهر والشواهد الحضارية الراقية في العالم إلى أصولها العربية والإسلامية، وكأنما كل الأمم والشعوب الأخرى كانت طارئة على الحضارة والتاريخ الإنساني. تلك كذبة كبرى وأنانية فجة.

صندوق الاقتراع، أو ما يمكن تلخيصه بالعملية الانتخابية، يتعرض للكثير من التشكيك والممانعة والرفض، ولكنه رغم كل ذلك يُعتبر الوسيلة العصرية الأبرز التي يمكن الوثوق بها للوصول إلى القرار المناسب وفق آلية أقرب إلى الصواب. لا أحد من مؤيدي الانتخابات يُصر على أنها تُفرز الحقيقة المطلقة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ولكنها ـ أي الانتخابات ـ أجود ما صنعه الإنسان ضمن منظومة الحريات والحقوق، التي تتضمن العدل والمساواة والحرية والمشاركة في صنع القرار، أو ما بات يُعرف بالنهج الديموقراطي.

في المعجم البسيط، الانتخاب يعني "الاختيار من خلال إجراء قانوني يُحدد نظامه ووقته ومكانه في دستور أو لائحة"، كما يُشير المعجم أيضاً إلى أن الانتخاب مفردة "محدثة"، أي أنها لم تكن معروفة تاريخياً أو متوارثة عرفياً. والانتخابات، ثقافة عالمية، تعني باختصار المشاركة الفعلية في إدارة الشؤون العامة، وهي حق أساسي للإنسان نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948م، وكذلك العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1966م، إضافة إلى العديد من الاتفاقيات والمعاهدات والقرارات الدولية. ويُعتبر حق المشاركة، وحق التصويت والترشح، والحق في المساواة في تولي الوظائف العامة، هي الحقوق الرئيسية للانتخابات وفق معايير منظمة الأمم المتحدة.

ولكن، لماذا تغيب ـ أو تُغيب ـ هذه الثقافة الضرورية عن مجتمعاتنا العربية؟ سؤال خطير وملتبس، والإجابة عليه لا تقل خطورة والتباساً. فثقافة الانتخاب في مجتمعاتنا العربية مازالت "جنينية"، ولم تخرج بعد من شرنقة البدايات، لذا فهي تحتاج إلى المزيد من تراكم الخبرات والإلحاح والصبر. كذلك تواجه الانتخابات عقبة صعبة جداً، تتمثل في عدم الاعتراف أصلاً بالنظام الديموقراطي الذي يُمثل الانتخاب أحد أهم مظاهره، فلا ديموقراطية بدون انتخابات. أيضاً، الانتخابات لا يمكن تقييدها وحصرها في بعض الإجراءات والأدبيات، ولكنها ممارسة متكاملة أكثر عمقاً وبعداً وشفافية. كما أن الانتخابات تُعتبر الصدى الحقيقي لممارسة الكثير من مجالات الحقوق والحريات والمعتقدات كالمساواة والعدل والكفاءة، ونبذ كل ألوان التمييز العرقي والطائفي والسياسي والاجتماعي والفكري.

المواطن العربي البسيط، ينظر لصندوق الانتخابات سيئ السمعة بشيء من الريبة والشك، فذاكرته القريبة والبعيدة مازالت تحتفظ بصور هزلية لتلك الانتخابات الشكلية، انتخابات الـ 99،9? التي لم تكن سوى استخفاف بالعقل العربي. ومهما تعرضت العملية الانتخابية للكثير من الشكوك والعيوب والثغرات والتحديات؛ إلا أنها استحقاق إنساني مهم لا يمكن التفريط فيه أو تغييبه بحجة التداعيات التي تُفرزها عملية الانتخاب، أو بسبب إثارة بعض الشكوك حول نزاهتها وشفافيتها، أو إمكانية تزييفها والتلاعب بها.

قد يحدث كل ذلك وأكثر، ولكن هذا لا يعني إلغاءها من واقعنا العربي.

إن إشاعة هذه الثقافة الرائعة في مجتمعنا ستسهم في صنع حراك اجتماعي بين كل أفراد ونخب وشرائح ومؤسسات المجتمع، كما ستُتاح الفرصة لكل الطاقات الكامنة من مبدعين ومتميزين للبروز والمساهمة في صنع القرار والمشاركة الفاعلة في تنمية الوطن، كما تُعتبر الانتخابات بمثابة دورات تثقيفية لصقل المواهب، ونضوج التجربة لكافة مكونات المجتمع، أيضاً الانتخابات توسع دائرة المشاركة، حيث يُشارك المجتمع بأسره في إدارة شؤونه عبر ممثليه المنتخبين في مختلف الدوائر والمؤسسات.

إن انتخابات المجالس البلدية خطوة جيدة على طريق المشاركة في صنع القرار، وبوصلة دقيقة باتجاه تكريس ثقافة العمل المشترك، ومشاركة المرأة السعودية ستعطي العملية الانتخابية الكثير من الزخم والشفافية والواقعية. الانتخابات سنة الحياة الحديثة، تلك هي الحقيقة.