لا أحب أرامكو.. هكذا ببساطة، فمنذ وعيت على الدنيا وهي تسرق منا أبي.. لا نشاهده إلا نادرا وكلما عاتبته قال "العمل يابنتي لا يرحم"، يقول لي هذا وهو لا يعلم أنه يزرع بداخلي بذور غضب طفولي تجاه هذه المنشأة، كبرت قليلا فوعيت على الساعة والوقت الذي يغادر فيه أبي إلى عمله، فبدأت في مصارعة النوم ونجحت، أفقت مبكرا جدا وهرعت لأرى أبي قبل مغادرته لكن للأسف.. كان قد غادر بالفعل، لم أستطع اللحاق به لأنه يخرج باكرا، كان أبي مثل كل موظفي أرامكو المخلصين، كان بالكاد يعرف كتابة اسمه باللغة العربية إلا أنه يتحدث الإنجليزية بطلاقة وذلك لأن عمله يحتاج إلى إتقان هذه اللغة، قد يتأخر أو يتباطأ عن الذهاب بأحدنا إلى المستشفى لكنه لا يتأخر عن دوامه أبدا، يصيبه المرض أحيانا إلا أنه لا يذهب للطبيب لأخذ إجازة بل ليأخذ دواء يعينه على أداء عمله، وأنا صغيرته التي لا يجد وقتا لي كما يجد وقتا لعمله، أراقب كل هذا وأغضب من هذه الشركة التي تأخذ مني أبي، وكبرت وكبر أبي وما زلت أغار من أرامكو حتى تقاعد أبي، فاحتفلت أخيرا بمغادرة أرامكو لحياتنا إلى الأبد، لكنني كنت مخطئة، ما زالت أرامكو حاضرة بكل تفاصيلها تقاسمنا حياتنا، فهي لا تفارق لسان أبي في كل مناسبة إشادة وفخرا ومباهاة بها ومتابعة لكل إنجازاتها، وما زلت أغار من أرامكو، حتى تلقيت دعوة قبل أيام موقعة من رئيس شركة أرامكو السعودية المهندس خالد الفالح لزيارة الشركة، والتعرف على إنجازاتها، أرامكو القريبة مني جدا طوال سنوات مضت، إلا أنها مجهولة بالنسبة لي، لم أحاول الدخول إليه ولم أرغب في ذلك.. فقط كنت أقرأ إصدار أرامكو الأشهر وهو مجلة قافلة الزيت التي إن وقعت بالصدفة بين يدي فإني أحرص على قراءتها كاملة لما تحتويه من معلومات ومواضيع علمية ذات فائدة، وإصدار أرامكو الآخر أضواء على السلامة والذي أحرص على اقتنائه والاحتفاظ به وأعتبره مرجعا مهما لمعرفة التدابير الوقائية للسلامة من الأخطار، لكن هذا لا يعني أنني أحب أرامكو.. تأملت تلك الدعوة بتوجس، حسنا.. سأقبل الدعوة وسوف أذهب بإذن الله، إنه لقاء الخصم للخصم سأنفذ إلى أعماق سارقة الآباء عفوا أقصد (صانعة الرجال) كما يقول أبي، سأشاهد عن قرب وعلى وجه الحقيقة كيف تقدم أرامكو موظفيها وقودا لآلاتها الضخمة العملاقة كما كنت أراها في أحلامي وأنا صغيرة تشبه الديناصورات الضخمة وتتلون بألوانها، سأرى روح الغطرسة والتعالي التي يوصم بها مسؤولو هذه الشركة.

لذلك قررت تلبية هذه الدعوة للتوغل داخل عالم أرامكو ولم أعد نفسي فيه بالمتعة فهو كما أتوقع عالم اقتصادي مادي جامد، يسيطر عليه الروتين الذي يحول البشر شيئا فشيئا إلى مجرد آلات ذات كفاءة عالية.

البداية

في اليوم الموعود.. وصلنا إلى مقر إقامتنا، كان في استقبالنا أنا وعدد من الكتاب والمفكرين رجالا ونساء مجموعة من الموظفين في العلاقات العامة عرّفوا بأنفسهم، أسماء مجردة من التسميات الوظيفية والدرجات العلمية، طارق متعب، وليد عبدالرحمن، لم أكترث للأسماء كثيرا، أدهشتني صبغة التواضع والدماثة، وطوال إقامتي فشلت في معرفة الرئيس من المرؤوس في إدارة العلاقات العامة فكانوا زملاء يعملون بانسجام تام.. الرائع في الأمر أن أرامكو استضافتنا بطريقتها هي لا بطريقتنا نحن إذاً؟ هل قلت الرائع؟ بل أقصد المدهش فأنا طوال عمل أبي في أرامكو لم أعثر على جانب رائع سوى المردود المادي الذي لا آبه له كثيرا، لم تلتفت أرامكو لعاداتنا في النوم والاستيقاظ ووقت الخروج ولا لما تعودته الجهات المضيفة عادة من الحرص على راحة الضيوف البدنية بل أشركتنا في عالمها المنضبط الدقيق الذي تخرج منه أبي قبل سنوات ولم تتراخ في جدول الاستضافة حرصا على (خمولنا) أقصد راحتنا، كنا أنا وزميلاتي نحرص على التذمر من هذا البرنامج المزدحم كلما سنحت لنا فرصة والتصريح بالتعب للأشخاص المرافقين لنا من قبل أرامكو، بل أمعنا في وصف أرامكو بالمنشأة العسكرية.. لكنهم لم يكترثوا كثيرا لتذمرنا بل كانوا يذكروننا بابتسامة لطيفة، (وغدا سيبدأ الجدول باكرا، سيبدأ الفطور في السابعة والنصف وسنغادر في تمام الثامنة والنصف) شعرت بالحقد على المتحدث ووددت لو أنني لم أحضر، التفت إلينا أنا وزميلاتي وخمن بشعورنا نحوه بالتأكيد.. لكنه ابتسم كذلك. كانوا يراهنون علينا كما يبدو.. أخذونا في جولات كثيرة للمعرض والمعامل وحقول النفط وغرفة التحكم، تعرفنا على الوطني والإنساني الذي تضطلع به أرامكو وشاهدنا الحقول الذكية وأطلعونا على بعض التجارب الناجحة التي تم تنفيذها وأثبتت نجاحا، رحلات متلاحقة إلى كل منشآت أرامكو وعروض مصورة وأفلام وثائقية تحكي قصص النجاح والإنجاز، كنت أتأمل في عيون الموظفين ونبرات أصواتهم واللغة التي يتحدثون بها.. لم يكونوا آلات كما توقعت ولم تقذف بهم أرامكو كوقود للآلات الكبيرة كما تصورت، كان كل فرد منهم يتحدث بلغة واثقة تشعر بالفخر، يباهون بإنجازاتهم ويغفلون ذكر الصعوبات ولا يهتمون لأوقات الدوام متى تبدأ ومتى تنتهي، فهم نذروا كل أوقاتهم لعملهم وتميزهم وخدمة وطنهم، لفت نظري اهتمامهم بتدريب موظفيهم وتطويرهم بشكل مستمر وإكسابهم المهارات المتنوعة التي تخدم مجالهم.. أحببت هذا العالم بتنوعه ودقته وتميزه وبمساواته بين موظفيه وموظفاته، باحترامه للمرأة بكل قناعاتها وتوجهاتها ومعاملتها كإنسان كامل الأهلية فلا فرق بين المحجبة أو صاحبة العباءة ومن لا تضع الغطاء على رأسها أو من ترتدي البنطال حيث لا تمايز إلا بحسب الكفاءة.. نعم أنا مدركة تماما بأنني قلت إنني أحببت هذا العالم، أحببت أرامكو بمدى حرصها على الإنسان (القيمة)، وجدت إجابة بحجم سؤالي الكبير الذي كان يشغلني ويشغل العديد من زملائي وزميلاتي.. كيف تقوم أرامكو بصناعة الإنسان؟ كيف تجعل من الإنسان العادي شخصا بمواصفات خاصة من احترام الوقت والانضباط والشعور بالمسؤولية والولاء لشركته التي يعطيها بإخلاص من وقته وجهده وراحته وتبادله هي حبا بحب.. أعجبتني مقولة الأستاذ عبدالعزيز الخيال وراقت لي كثيرا "البترول في الأرض بفضل من الله، والتكنولوجيا نشتريها، لكن الأهم كيف نصنع الإنسان؟ الذي من دونه لا قيمة لكل هذا" لقد كسبوا الرهان بالفعل.. ففي نهاية الرحلة لم يتبق في ذاكرتي إلا المتعة والدهشة، أحببت الاستيقاظ مبكرا، شعرت بالنشاط والحيوية، وددت لو كنت أملك وقتا أكبر أتخفف فيه من النوم وأتزود بالكثير مما لم أعرفه عن أرامكو ومعرضها ومعاملها وإنجازاتها والمسؤولية الوطنية والإنسانية المناطة بها.. وددت لو سألت أكثر واستفسرت أكثر فهناك الكثير مما يغري بالأسئلة.. مشاريع قائمة ومشاريع مستقبلية ومشاريع قيد التنفيذ، هذه المباني الجامدة الصلبة من الخارج هي في الحقيقة تموج في داخلها بحركة دائبة، بل هي سر الحركة والحياة في خارجها.. عذرت أبي في حبه لعمله وددت لو عادت الأيام لأستمتع معه بهذا العشق وأغترف منه..

إلى الشيبة

هذا هو موعدنا مع الشيبة... كنت أنظر إليها من نافذة الطائرة وأنا أتأرجح بين تيارات من الدهشة والتساؤلات المحيرة، كانت فتاة يافعة شابة تتهادى مختالة بثوبها الأصفر الجميل وتلوح بيدها لنا من بعيد فاتحة باعها لاحتضاننا جميعا يزفها رجال أبطال مازالت علامات الكفاح ونشوة الانتصار تلون جباههم السمراء وهم يتبعون ابنتهم المدللة، إنها الشيبة أسطورة خذلتها الصحراء فأنصفتها أرامكو.. أدركت ونحن في الأعلى أن الشيبة مكان تحاصره الصحراء من كل الجهات وعندما وطئت رجلي ترابها عرفت أنها قلب يحتضن كل الوطن، عرفت كيف تستنطق الإرادة صمت الطبيعة المطبق في الربع الخالي فتحيله إلى أهازيج فرح وأناشيد عشق وتغريد بلابل، كيف يصبح صوت المحركات وهديرها الذي لا ينام نبضا يعشقه كل من يحب هذا الوطن لذلك لا يريد أن يتصور توقفه أبدا، كانت التلال الرملية الضخمة جاثمة حول الشيبة تحيط بها وتحميها بوقارها المعهود تستف الرمال الحمراء وتنظر في هدوء وإعجاب إلى الشيبة وهي تنمو وتكبر، ثم تبتسم ابتسامة الأم المزهوة بانتصار أبنائها.. اصطحبنا أبناء الشيبة البارين هناك من موظفي شركة أرامكو السعودية في جولة أشبه ما تكون بالحلم إلى مرافقها الكثيرة ومعاملها التي تحدت قسوة الصحراء واستمعنا إلى الكلمات القليلة التي تفضل بها موظفو الشركة هناك والذين بدا واضحا أنهم اكتفوا بلغة الإنجازات وأنابوها للحديث عنهم وأعرضوا عن الثرثرة فلم تكن الصحراء لتمنحهم وقتا للحديث أو لتستمع إليهم، لكنهم تخففوا من بعض أعبائهم قبيل الغروب وأخذونا عاليا على ذلك التل الرملي الكبير لنشهد أجمل منظر غروب رأيته في حياتي حيث مالت الشمس برأسها على كتف التل الكبير بعد رحلة نهارية مرهقة فغطاهما الكون بشاله الأحمر الرائع، منظر لا تملك أمامه إلا أن تسبح الله..

نزلنا إلى الأسفل بعد أن شهدنا الغروب وما زال الموظفون هناك يواصلون إدهاشنا فاصطحبونا إلى خيمة كبيرة، وحسب تقاليد الصحراء قدموا لنا القهوة العربية والتمر وعرضا رائعا يبين كل تفاصيل هذا الحلم الضخم الذي تحول إلى واقع معجز مستندين على كم هائل من الأرقام والنسب، سألنا كثيرا حتى نميط ستار الغموض والدهشة الذي يغلفنا، سألنا عن حجم الإنتاج في حقل شيبة والاحتياطي ونوع الزيت المستخرج كيفية معالجته، كيف أصبح حقل الشيبة عالما مستقلا يحقق اكتفاءه الذاتي من كل شيء.. لكن صدورهم كانت برحابة الصحراء وكانت لغة الأرقام حاضرة على الدوام.

في طريق العودة من المطار كنت أفكر في الشيبة.. قبل سنوات بعيدة كانت جدتي تحكي لي عن أسطورة.. رجل توغل في الصحراء بحثا عن دواء عشبي لمحبوبته لكنه توغل كثيرا في عمق الصحراء حيث المجهول الذي لا يسكنه إلا الخوف والأرواح الشريرة والجن، فاختفى وغطت معالمه الرمال الزاحفة بعنف لتلتهم كل ما هو متحرك سواها، لكنه وبعد عشر سنوات عاد سليما يحمل في يده الدواء، سخر منه الناس الذين استغربوا بقاءه حيا عندما أخبرهم أنه كان في ضيافة أناس لديهم الماء والحياة والماشية والعشب وأكد لهم أنهم بشر مثلنا وليسوا من الجن، يا إلهي أتراهم تنبأوا بالشيبة؟ شيبة التي لم تعد أسطورة.. بل معجزة أرامكو الرائعة.. موازنة ضخمة وجهود جبارة وعمل دؤوب متواصل وإرادة قوية لا تعرف الانكسار كانت هذه الأشياء كافية لولادة هذه المعجزة في أحضان الربع الخالي، فألف تحية إكبار لكل من ساهم في بناء واستمرار الشيبة بكل شموخها وتميزها.

مع الفالح

كان المهندس خالد الفالح في استقبالنا منذ نزولنا من حافلة الشركة، وفي معيته النائب الأعلى له الأستاذ عبدالعزيز الخيال وعدد من كبار المسؤولين، إلا أنني الآن بدأت في حل لغز التواضع والأريحية الذي لاحظناه عند كل موظفي الشركة من الرجال والنساء على حد السواء مع اختلاف مراكزهم الوظيفية وأماكن عملهم، كان رئيسهم ممعنا في التواضع إلى حد الدهشة، مستمعا جيدا هادئا على غير عجلة من أمره رغم مشاغله، باسط الجميع ولاطفهم وحرص على تسمية كل شخص باسمه أثناء الحديث رغم كثرتنا، وبالرغم من الكم الهائل من الأسئلة الذي حاصرناه به إلا أنه اهتم بها بشكل ملحوظ فلم يتجاهل سؤالا ولم يهمل فقرة بل كان حريصا على استيفاء كل جوانب السؤال قبل الانتقال لغيره، استمرت أسئلتنا واستفساراتنا تلاحقه حتى على طاولة الطعام حتى قرر أن يضع الشوكة والسكين ويتفرغ للإجابة على استفساراتنا، كان ملما بكل ما يخص شركة أرامكو السعودية كبيرا كان أو صغيرا ويعود في التفاصيل الدقيقة إلى معاونيه كل حسب مسؤولياته معتمدا على الأرقام والإحصائيات، تحدث ممتنا لحكومة بلاده بقيادة حامل لواء النهضة فيها خادم الحرمين الشريفين، وعن الاحتياط النفطي الثابت وصادرات أرامكو السعودية ومشاريع أرامكو التنموية والحقول الذكية والتقنيات الحديثة وكأنه فطن إلى نهمنا المعرفي، بقدر إعجابي بما رأيت إلا أنني أتطلع لدور أكبر تنهض به هذه الشركة العملاقة وهي مؤهلة للمهمات الكبرى والوطنية.. كإنشاء المراكز البحثية والمزيد من معاهد التدريب والتطوير، المشاركة في حل بعض الهموم الوطنية ومد يد المواساة لكل محتاج في كل أرجاء الوطن، كنت أتمنى أن أرى لأرامكو دوراً فاعلاً في كوارث جدة وفي القرى البعيدة التي كانت تغرق في ظلامها بدون كهرباء، وعلينا الاستفادة من برامج أرامكو المتقدمة خاصة في مجال التعليم والتدريب. غادرت أرامكو وأنا أشعر بالامتنان لما تقدمه هذه الشركة من خدمة للوطن وأبنائه وممتنة جدا لدعوة أزالت ستار الغموض الذي غلف هذا الاسم وحجبه عني بكل جماله لسنوات خلت.