ليسمح لي المجلس الأعلى للقضاء الموقر بنقطة نظام أستفسر فيها عن خللٍ ظاهر، لا يمكن تركه يمر؛ لأنه يضر.

الخلل الأول الذي ينبغي عدم السكوت عنه: بشأن حريق مدرسة براعم الوطن. تقبل الله أولئك الشهداء، وأخلف على أهليهم خيراً منهم.

فبعد حصول تلك الفاجعة ورد في تصريح صحفي لرئيس المحكمة العامة هناك التأكيد على ثلاثة أحكام؛ هي على التوالي:

1/ لا علاقة للتأمينات الاجتماعية بتعويض ورثة المعلمتين اللتين توفيتا في الحريق.

2/ إلزام شركات التأمين بدفع الدية في حال تأمين مالك المدرسة على معلماتها.

3/ من حق ورثة المتوفيات مقاضاة المتسبب في الحريق.

وبعد هذا التصريح بثلاثة أيام نشرت صحيفة أخرى لذات الرئيس تصريحاً فيه تفسيرٌ لحكمه الثالث على المتسبب في الحريق؛ بقوله: "إن تحمل مبلغ الدية إذا ثبتت على هؤلاء الطالبات، فمن المؤكد: أن الذي سوف يلزم بتحمل دفعها هم أولياء أمورهن؛ لأن ولي القاصر هو المسؤول عنه".

وهنا لم نجد للمجلس الفاضل تحركاً بمنع ذلك الرئيس من تلك التصريحات الاستباقية، والخارجة عن اختصاصه القضائي؛ فالحكم على التأمينات الاجتماعية أو الحكم لصالحها من اختصاص القضاء الإداري، والحكم على شركات التأمين من اختصاص اللجنة التأمينية.

أما الحكم المؤكد الثالث فقد ظهر منه: أن صاحب التصريح لم يخطر بباله أن الحريق من باب قتل الخطأ؛ سواء كان خطأ فعلا، أو كان عمداً محضاً من فاعله؛ بحكم صدوره من قاصر عن سن الرشد، وعمد الصغير والمجنون من باب الخطأ في الشريعة الإسلامية، ولهذا فإن ولي أمر القاتل القاصر ليس هو المسؤول عن دفع دية القتل لوحده، بل الدية في مثل هذه الأحوال على عاقلته؛ كما هو مقرر في كتب الفقه.

إضافة إلى أن هذا التصريح سيكون سبباً في منع فضيلة الرئيس من نظر هذه القضية بناءً على الفقرة (هـ) من المادة التسعين من نظام المرافعات الشرعية، بل إن حكمه فيها يقع باطلاً ولو تم باتفاق الخصوم جميعهم، أو تأيد من محكمة التمييز؛ بناءً على المادة الحادية والتسعين من النظام ذاته.

هذان التصريحان الخاطئان يفصل بينهما ثلاثة أيام عمل، وهي مدة كافية ليتعقب المجلس فاعله، ويتخذ بحقه الإجراء المناسب، غير أن المجلس الموقر؛ إما: أنه لا يتابع ما يصدر من منسوبيه مخالفاً للأنظمة والتعليمات، وإما: أنه لا يأبه لما يصدر منهم على خلاف ما هو مقرر شرعاً، وكلا الأمرين أحلاهما مر.

الخلل الثاني الذي يجب تدارك أمره على الفور هو: قضاء التنفيذ؛ الذي لم يحظ بأي عناية تذكر من قبل المجلس، فنصيب نحوٍ من ثلاثمئة محكمة قائمة لا يزال قريباً من عشرة قضاة تنفيذ فقط.

والملحوظ على سياسة المجلس تجاه هذا القضاء الهام أمور، منها:

1/ إن قضاة التنفيذ المعينين من المجلس هم من أصحاب المراتب القضائية الصغرى، الذين لم تتوافر لهم الخبرة الكافية في الإلمام بأنواع الأحكام الخاضعة لاختصاصهم، فضلاً عن الإحاطة بطرق تنفيذها.

2/ إن بعض قضاة التنفيذ لم يتلق دورات تدريبية أصلاً قبل ولوجه عالم التنفيذ، وبعضهم تلقى ما لا يكفي منها لتولي تلك المهمة الشاقة والخطيرة.

3/ إن هذا القضاء المتخصص أصبح فرصة لتصحيح أوضاع بعض القضاة الجدد؛ بنقلهم من محاكمهم النائية إلى حيث يرغبون؛ بحكم شغور وظيفة قاضي التنفيذ في المكان الذي يريدونه، ويخشى كثير من المراقبين: أن يكون القضاء المتخصص سبيلاً لاختراق قواعد النقل المقررة من المجلس نفسه، أو: أن يكون محطة توقف لبعض المفضلين، تصحح بعده مواقعهم كما فعل بأشياعهم من قبل؛ خصوصاً: أن القضاء العمالي، وقضاء الأحوال الشخصية، وغيرهما من أنواع القضاء المستحدثة والمنقولة إلى القضاء العام في طريقها إلى التفعيل قريباً.

4/ إن سياسة المجلس تجاه قضاء التنفيذ يعرض مبدأ العدالة للانهيار؛ فلا قيمة لحكم لا نفاذ له، واضطلاع القضاء العام بتنفيذ أحكامه إما أن يرفع قدره وقدر منسوبيه، وإما أن يخفض مرفق القضاء بأكمله قيادة ومنسوبين، وهذا ما نخشاه في ظل هذه السياسات المتثاقلة والمتباطئة عن الاصطفاف في الميدان مع الواجبات والطموحات المرتجاة من المجلس الموقر.

5/ إن متابعة المجلس لممارسات قضاة التنفيذ تكاد تكون مفتقدة، فقد ذكر لي أحد القضاة الأفاضل: أن حكماً نهائياً صدر ضد مستثمر هارب، وبعد أن حدد موعد للتنفيذ على محجوزاته في مزاد علني: فوجئ المدعون في اليوم المحدد للبيع بقرار يلغي ذلك المزاد، ويقضي بفك الحجز التحفظي عن موجودات المحكوم عليه؛ بحجة صدور تعهدٍ من المدعى عليه - عن طريق وكيله - بسداد جميع ما بذمته بشرط تمكينه من بيع موجوداته عن طريق ذلك الوكيل، وما هي إلا ساعات قلائل حتى تم البيع بغير إشرافٍ من قاضي التنفيذ، ولا بإذنٍ من هيئة الاستثمار العامة، وأعقبه على الفور تحويل مبلغ الشراء إلى المستثمر الهارب في مكانه خارج المملكة، وأصحاب الحقوق والمزايدون المدعوون لحضور المزاد هم آخر من يعلم.

ولو أن المجلس الموقر قيَّد تصرفات قضاة التنفيذ بمنع فك الحجز التحفظي بعد إيقاعه حتى تمام التنفيذ، أو بعد صدور إذن صريح بفكه من محكمة الاستئناف المختصة بعد أخذ الكفالة الغرمية المشددة: لما ضاعت حقوق أولئك المدَّعين الحائرين في تحديد المسؤول عن ضياع حقوقهم حتى الساعة.