عندما ينقم أحد القضاة من أحد مراجعيه إخلالاً بنظام الجلسة: فإنه يفزع إلى وعظه أولاً، ثم إلى تعنيفه، ثم إلى تحرير محضر بالواقعة والأمر بسجنه أربعاً وعشرين ساعة.

وإن احتاج الأمر لزيادة في العقوبة جاز للقاضي إحالة المخالف إلى هيئة التحقيق والادعاء العام لمحاكمته، وطلب تأديبه بما يناسب ما حدث منه. وهو ما جاءت به المادة (69) من نظام المرافعات الشرعية ولوائحها التنفيذية.

أما إذا نقم المراجع من القاضي أمراً يريبه: فإن مفزعه الأول إلى الرئيس المباشر للقاضي؛ بناءً على المادة (58) من نظام القضاء، ثم إلى رئيس المجلس الأعلى للقضاء، وهنا لا بد لرئيس المجلس أن يتحرى عن الأمر أولاً بأحد طريقين:-

1/ الكتابة إلى القاضي بطلب الإفادة عن موضوع الشكاية وملابساتها.

2/ أن يبعث مفتشاً قضائياً للتحري عن موضوع التظلم، وإفادة الرئيس بالحقيقة؛ بناءً على المادة (55) من نظام القضاء.

ومتى تبين لرئيس المجلس مخالفة القاضي لواجباته أو مقتضيات وظيفته: وجب عليه أولاً أن يندب قاضياً لا تقل درجته عن قاضي استئناف للتحقيق مع القاضي المخالف قبل أن يطلب من إدارة التفتيش القضائي إقامة الدعوى التأديبية ضده لدى دائرة التأديب في المجلس؛ وحينئذ يلزم رئيس إدارة التفتيش أو من ينيبه رفع هذه الدعوى؛ بناءً على المادة (60) من نظام القضاء، وما تقرره دائرة التأديب في حق القاضي لا يكون نهائياً إلا بموافقة المجلس عليها؛ بناءً على المادة (59) من نظام القضاء.

من مجموع هذه المواد نرى أن أمر مخالفات القضاة مضبوط نظاماً وغير موكول لوجهات النظر الشخصية من أي من الجهات المنصوص عليها في النظام؛ من لدن القاضي المخالف وصولاً إلى المجلس الموقر، مروراً برئيس المحكمة، فالمفتش، فالمحقق، فرئيس التفتيش، فدائرة التأديب.

هكذا هو ضبط الأمور، وهكذا يجب أن تدار ممن أسند إليهم أمر تطبيق الأنظمة، إذ بدون تطبيق ذلك يختل النظام، وتختلف الموازين، وتتحقق إساءة استعمال السلطة الوظيفية، وكل ذلك محظور على الموظف الحكومي أياً كان موقعه؛ بحكم الفقرة (4) من المادة (5) من نظام محاكمة الوزراء، والمادة (12) من نظام الخدمة المدنية المؤكد على القضاة الالتزام به بموجب المادة (45) من نظام القضاء.

وحتى يستبين للجميع خطر الإخلال بواجبات الوظيفة العامة لا بد أن نكون على بينة مما جاء في هذه المادة من مواد نظام مكافحة الرشوة الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/ 36 وتاريخ 29 /12 /1412، ونصها:-

[المادة الرابعة: كل موظف عام أخل بواجبات وظيفته؛ بأن قام بعمل، أو امتنع عن عمل من أعمال تلك الوظيفة؛ نتيجةً: لرجاء، أو توصية، أو وساطة: يعد في حكم المرتشي، ويعاقب بالسجن مدةً لا تتجاوز ثلاث سنوات، وبغرامة لا تزيد عن مئة ألف ريال، أو بإحدى هاتين العقوبتين] انتهى.

إننا إذ ننبه على هذا المسلك الإداري السلبي الخاطئ لنربأ بجميع الدوائر الحكومية وموظفيها أن يقعوا في هذه الإخلال الوظيفي؛ خصوصاً من دوائرنا القضائية، وعلى رأسها المجلس الأعلى للقضاء الذي تخطى تلك المواد السالفة في خلاف مستحكم بين قاضيين، فعطل أحكامها؛ ليبحث الواقعة مباشرة قبل التحقيق فيها معهما، وقبل المحاكمة التأديبية لمن تثبت مخالفته منهما؛ مما أدى إلى اختلاف أعضاء المجلس بشأنها اختلافاً لم يسبق حصول مثله منذ إنشاء المجلس.

لقد قرر نصف أعضاء المجلس ضرورة التحقيق والالتزام بأحكام النظام، ورأى النصف المعطل حفظ القضية بلا تحقيق ولا مساءلة.

والأعجب من هذه المخالفة الصادمة لأحكام أنظمة الدولة السالفة الذكر: أن القاضيين المختلفين يطلبان معاً التحقيق في اتهامات كل منهما لصاحبه، ويلحان معاً على المجلس في طلبهما؛ غير أن أعضاء المجلس المعطلين التفتوا عن طلبهما إجراء التحقيق الموافق للنظام، فصدر قرار المجلس أخيراً بترجيح الرئيس لأمر التعطيل.

ولم يعلم المجلس الموقر بنصفيه المعطل وأخيه غير المعطل: أن نظرهم الخلاف بين القاضيين سابق لأوانه أصلاً، وأن الواجب عليهم جميعاً ألا يوافقوا على طرح القضية للبحث، ولا إدراجها ضمن أعمال الجلسة الأخيرة حتى يتم استكمال إجراءاتها التحضيرية السالف ذكرها؛ رعايةً لما يسندها من مواد واضحة صريحة في أربعة أنظمة معتمدة من أنظمة الدولة أيدها الله.

لا يعلم سبب تعطيل مواد النظام القضائي من قبل المجلس، وليس ثمة ما يرجح مخالفة أحكام النظام؛ لأن القاضيين إما أن يكون اتهام كل منهما لصاحبه صادقاً، أو كاذباً، وفي كلتا الحالتين لا خير للقضاء فيهما ولا منهما، وإما أن يصدق اتهام أحدهما دون الآخر، أو يكون مع كليهما صواب وخطأ، وهنا لا مسوغ لترك الطرف الخاطئ دون توجيه أو عقوبة.

إن المخالفة النظامية من المجلس الموقر - مهما كان سبب الأخذ بها - أمر خطأ متيقن، ومع ذلك: لو أن من يطرح أحكام النظام ويعرض عن تطبيقها يعمم طرحه هذا على الجميع دون تمييز: لهان الأمر على المطالع والمتابع؛ من باب: الظلم بالسوية عدل في الرعية.

أما أن يعطل النظام لمصلحة أناس دون آخرين: فذلك هو الكيل بمكيالين، وهو الأمر الذي أغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأغلظ من أجله على حبه وابن حبه أسامة بن زيد رضي الله عنهما في قضية عين؛ معللاً غضبه الشديد بالخوف على أمته كلها من الوقوع فيما أهلك الأمم السابقة التي تكيل بمكيالين؛ في قوله عليه الصلاة والسلام (إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد) متفق عليه.

إننا هنا - إذ نثمن لطرفي هذا الخلاف إلحاحهما على المجلس بطلب التحقيق - لنؤكد على لزوم تطبيق أحكام نظام القضاء؛ دون النظر إلى المعوقات الشخصية ولا المثبطات العاطفية؛ حتى لا تهتز الثقة بالمرجعية القضائية لدى العامة والخاصة، {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا}.