أروى خشيفاتي من الصحفيات المتفانيات والمتحمسات في عملها الصحفي، وهي دؤوبة السؤال عن العلوم خاصة ما يرتبط منها بعلم البيئة والتلوث، اتصلت بي لتسألني عن الانعكاسات السلبية لمادة الفورمالدهيد التي تدخل في صناعة الأحذية Formaldehyde على الصحة العامة، والموضوع أكثر تعقيداً من ذلك بكثير، فهذه المادة المسرطنة لا تستخدم فقط في صناعة الأحذية بل هي دخلت منازلنا من أوسع أبوابها، فهي تمثل تحدياً خطيراً للعاملين في المصانع والطلاب والمدرسين في الجامعات والمدارس، ولكن قبل الخوض في التحديات الخطيرة التي تمثلها هذه المادة على الصحة العامة يجب أن نوضح للقارئ الكريم ما هية هذه المادة، وهي في الحقيقة ليست مادة بل غازاً عديم اللون ذا رائحة نفاذة حتى عند تركيزاته الصغيرة في الهواء والتي تصل إلى حوالي 1 جزء من المليون في الهواء الجوي.

ولمادة الفورمالدهيد أربعة صور صناعية لكل منها تطبيقاتها الصناعية الخاصة بها، وتختلف أسماؤها باختلاف المادة المضافة إليها فعندما تخلط مادة الفورمالدهيد بمادة اليوريا يطلق عليه اسم يوريا فورمالدهيد، وعندما تخلط بمادة الفينول يطلق عليه اسم فينول فورمالدهيد ، وعندما تخلط بمادة الميلانين يطلق عليه اسم ميلامين فورمالدهيد وجميع هذه المواد الثلاثة لها تطبيقات صناعية مختلفة، وعندما تختلط ماد الفورمالدهيد بمادة الكحول الميثيلي بنسبة 40% في وجود الماء يطلق عليها اسم مادة الفورمالين Formalin، ولهذه المادة أي مادة الفورمالين تطبيقات كبيرة وواسعة في جميع الكليات العلمية خاصة كلية الطب والعلوم والصيدلية، فهي تستخدم كمادة حافظة للعينات الحيوانية والنباتية، كما تستخدم كمادة حافظة للجثث الآدمية في معامل التشريح بكليات الطب، ومادة الفورمالدهيد من المواد المسرطنةCarcinogenic وتحتل المرتبة الرابعة والعشرين في الولايات المتحدة الأميركية في سلسلة الصناعات الكيميائية ؛ حيث بلغ إنتاجها من هذه المادة في العام الواحد حوالي 3 بلايين كيلو جرام، وقد حددت إدارة السلامة المهنية والإدارة الصحية الأميركية(OSHA) Occupational Safety and Health Administration وهي إدارة تحمي المهنيين الذين تقتضي مهنتهم التعامل مع المواد الكيميائية الخطرة من التعرض لمعدلات عالية من هذه الكيماويات التي تؤثر على سلامتهم الصحية، هذه الإدارة أدركت التحدي الخطير الذي تمثله هذه المادة للعمال والطلاب الذين يتعاملون معها بصور مختلفة، لذلك حددت هذه الإدارة ما مقداره 75. جزءاً في المليون (0.75 PPM) من تركيز هذه المادة في الهواء الجوي ولفترة زمنية لا تزيد عن 8 ساعات، ومن يخالف هذه النسبة من المصانع والجامعات والكليات العلمية يتعرض لغرامات قاسية قد تصل إلى إقفال المنشأة، وللتأكد من عدم تجاوز هذه النسبة عادة ما يثبت مسار (sensor) يثبت على معاطف الطلاب والعمال يطلق تحذيرات عند تجاوز هذه النسبة، خطورة هذه المادة دفعت الجامعات في كل من الولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي، إلى اختراع مادة تعادل مادة الفورمالين وتزيل الضرر منها دون أن تغير في صفات الفورمالين الحافظة أطلق عليها اسم معادل الفورمالين Formalin neutralizer، ويعلم الله أنه طوال عملي الأكاديمي والذي امتد تقريباً إلى 40 عاما لم أرى معملاً واحداً في أي كلية من الكليات العلمية سواء في جامعة الملك سعود أو جامعة الملك عبد العزير التزم بنسبة (0.75 PPM) التي التزمت بها جميع دول العالم، ومن هذا المنبر أتوجه إلى وزير التعليم العالي، أن يولي هذا الأمر عناية خاصة لأنه مرتبط بسلامة طلابنا وأساتذتهم، والعمل على التقيد بنسبة التركيز التي سنتها دول العالم المتحضر. وأعود مرة أخرى إلى التطبيقات الصناعية الأخرى لمادة الفورمالين المذكورة أعلاه والتي دخلت وتدخل منازلنا من أوسع أبوابها، ومن هذه استخدامه كمطهر من البكتيريا والفطريات، صناعة جميع أخشاب الديكور وخشب البلويد والخشب المضغوط، وصناعة الأقمشة والورق، كما تدخل مادة الفورمالدهيد في صناعة العديد من مواد التجميل، بمعنى أن مادة الفورمالدهيد موجودة بين ظهرانينا في المنزل وفي المكتب وفي السيارة وفي الملابس التي نلبسها، وفي الأثاث الذي نستخدمه، كل هذا قد لا يؤثر علينا إذا كانت نسبة مادة الفورمالدهيد في المواد المذكورة أعلاه تتطابق مع النسبة التي أقرتها المؤسسات البيئية والمهنية في جميع أنحاء العالم، فأين نحن من ذلك؟ فنحن نستورد من جميع دول العالم ولا نعرف أياً من هذه الدول المصدرة تلتزم فعلياً بنسبة (0.75 PPM) ، فخطر الفورمالدهيد لا ينحصر فقط في صناعة الأحذية بل يتجاوز ذلك ليعم جميع ما في منازلنا ومكاتبنا، وخوفي والله على طلابنا إناثاً وذكوراً في كليات الطب والعلوم والصيدلة!! ومما يبعث الخوف في نفسي أن جميع الأبحاث العلمية اتفقت على صعيد واحد على أن مادة الفورمالدهيد عند التعرض لتركيزات مرتفعة نسبياً ولفترات زمنية طويلة قد تسبب لا سمح الله العديد من الأمراض الخفية، منها سرطان الدم وضعف الجهاز المناعي والعقم لدى الرجال والنساء، والتهاب العيون والجهاز التنفسي.. فيا خفي الألطاف نجنا مما نخاف!