المجالس العليا في الدولة يشرف على تنظيم أعمالها أمانات عامة، لها من الصلاحيات الداخلية الشيء الكثير، ونفوذها أقوى من نفوذ الكثير من أعضاء تلك المجالس، ولا يهيمن عليها غير رؤساء المجالس ونوابهم. إن المهمة الخطيرة التي يضطلع بها أمناء المجالس العليا جعلت لهم الحق في أن تكون مراتبهم مساوية لمراتب أعضاء تلك المجالس؛ حتى لا يكون لأحدٍ سلطة عليهم ممن يكبرهم مرتبة؛ من غير الرؤساء ونوابهم ومساعديهم. لقد وفقت الكثير من المجالس العليا بأمناء ذوي كفاءة واقتدار ظهرا للعيان من انتظام سير أعمالها وفق نسق واحد غير متناقض ولا متباين، ومن ظهور آثار التطوير الفني والإداري على مخرجات تلك الأمانات. وخير مثال نراه في بلادنا لتلك الأمانات الرائدة ما لا يغيب عنا خبرها كل أسبوع، وهي الأمانة العامة لمجلس الوزراء، والتي هي خير مثال يحتذى للأمانة العامة. هذه الأمانة الموفقة لم يرهقها تكرار انعقاد مجلس الوزراء خمسين مرة في العام الواحد، كما لم تضطرب أعمال الأمانة بكثرة ما تحويه جداول أعمال الجلسات، ولا بتنوعها، ولا بتعدد جهاتها، ولا بشمولها جميع المصالح العامة في الدولة، ولا بعظم شأن رئيس المجلس وأعضائه الأكارم. إن مجموع ساعات انعقاد مجلس الوزراء خلال العام الواحد قرابة المائة ساعة؛ ففي كل يوم إثنين ينعقد المجلس مدة ساعتين في المعدل، ويخرج منه على الفور ما يهم الوطن والمواطن من قراراتٍ في شتى نواحي الحياة العامة والخاصة، الداخلية منها والخارجية. ولا نزال نرى ـ عبر شاشات التلفزة ـ أمام كل عضو من أعضاء هذا المجلس الرائد مجلداً حاوياً لأعمال الجلسة؛ يتصفحه الأعضاء في الجلسة التي تسبق الانعقاد، ويتدارسون مع زملائهم ما يرون التذكير به، أو التأكيد عليه قبل بدء الجلسة.

هذا هو حال أهم مجلسٍ أعلى في بلادنا، وهذا حال أمانته العامة. ويأتي مجلس الشورى ثانياً في الأهمية والشمولية، وهو الذي ينعقد بهيئته العامة مرتين كل أسبوع؛ ليكون مجموع ساعات انعقاده في العام الواحد 250ساعة، ومع خطورة ما يبحثه من قضايا تهم الدولة ومن يعيش على أرضها في جميع المناحي ـ مضافاً إلى ذلك كون أعضائه 150عضواً ـ فقد كان انتظام عمل المجلس مشرفاً، وإنجازه الكثير من القرارات ظاهراً، وما كان له أن يحقق هذا لولا أن لأمانته العامة الدور الكبير في تسهيل وتيسير بحث تلك القضايا؛ بما توفره من حسن الإعداد، وجودة التحليل، وجمال الصياغة، ودقة المتابعة. هذا هو حال الأمانتين العامتين للمجلس الأعلى للسلطة التنفيذية، والمجلس الأعلى للسلطة التنظيمية، وهما السلطتان اللتان تتوسطهما السلطة القضائية في جميع دول العالم. وبنظرة عابرة إلى المجلس الأعلى للقضاء نجد أن عليه أن يجتمع ست مرات في العام الواحد على الأقل؛ بحسب المادة السابعة من نظام القضاء، ولأن معدل أيام انعقاده في الجلسة الواحدة هو خمسة أيام، في كل يومٍ منها ست ساعات تقريباً، فإن ساعات عمل المجلس في العام الواحد لن تقل عن مائة وثمانين ساعة، أي: إن ساعات عمل المجلس الأعلى للقضاء أكثر من ساعات عمل مجلس الوزراء ومع ذلك فهو أقل منه إنجازاً. كما أن عدد أعضاء المجلس الأعلى للقضاء أقل من عدد أعضاء المجلسين اللذين قبله بكثير؛ خصوصاً: مجلس الشورى الذي يفوقه بأكثر من عشرة أضعاف، وكذلك عدد مرات انعقاده أقل من مرات انعقادهما؛ مما يوفر على أمانة المجلس الأعلى للقضاء الكثير من الجهد في متابعة الأعضاء والتحضير لأعمالهم، ومع ذلك: فأمانة مجلس السلطة القضائية أقل كفاءة وتنظيماً وأداءً، مع أن واجباتها محدودة بالنسبة لشقيقتيها أمانتي المجلسين السابقين؛ لأنها لا تتعدى شؤون القضاء إلى غيرها من الاختصاصات التي تنوء بها تلكما الأمانتان. وحتى يحظى القضاء والقضاة بخدمات أمانة المجلس الأعلى للقضاء كما ينبغي من مثلها فلا بد من مراعاة الأمور التالية:

أولاً: على الأمانة تبليغ الأعضاء بالملفات التفصيلية للقضايا المعروضة على المجلس قبل انعقاده بمدة كافية، ولتكن أسبوعاً على أقل تقدير، ما دامت الفترة الافتراضية بين الجلستين في حدود الشهرين.

ثانياً: لا بد من تطوير التعامل مع الأعضاء باستخدام وسائل الاتصال الحديثة؛ مثل: البريد الإلكتروني، وليكن ذلك بصفة فورية ومتواكبة مع ما يستجد من أحداث، وما ينتج من تحقيقاتٍ أو تحرياتٍ أو دراساتٍ طارئة.

ثالثاً: الاهتمام بوجهات النظر المخالفة من الأعضاء، وبما يقترحونه في سبيل تكامل العمل المشترك، وإخضاعها للدراسة والتدقيق قبل بدء الجلسة، وتبليغ الأعضاء بنتائج ذلك؛ حتى تكتمل الصورة قبل النهائية لدى كلٍ منهم.

رابعاً: التقيد ـ أثناء الجلسة ـ بحدود ما كفله النظام للأمين العام من عرض بنود جدول الأعمال، دون التدخل في تفضيل أيٍ من الخيارات المطروحة للبحث؛ إلا في إطار ما يأذن ببيانه رئيس الجلسة.

خامساً: رصد جميع وجهات النظر الطارئة ـ أثناء الجلسة ـ بالمخالفة لما سبق إعداده؛ حتى تبحثها قبل الجلسة اللاحقة، أو الإسراع في تجهيز الإجابة عنها بالرجوع الفوري إلى ملفات التحضير لأعمال الجلسة، والتي ينبغي أن يكون فيها الجواب عن كل احتمال ـ طارئ أو متوقع ـ قدر المستطاع.

سادساً: الالتزام بكل ما يصدر من المجلس من ضوابط، وتبليغها كاملة لمن يعنيهم الأمر بشفافية ووضوح، ولزوم الرجوع إلى المجلس بشأن ما تراه الأمانة من شروطٍ أو قيودٍ إضافيةٍ لازمةٍ لحسن أداء خدمات المجلس، وإعلانها على الفور.

سابعاً: على الأمانة تفعيل دور بيوت الخبرة والباحثين والفنيين والإداريين المتخصصين ـ بحسب المادة الثامنة من نظام القضاء ـ كل فيما يخصه؛ دون الاقتصار على شباب القضاة فيما هم فيه معدودون من الهواة لا من المحترفين.

إن تحقيق هذه الأمور سيكفل تقليل مدد انعقاد الجلسات، كما سيتيح تكثير عددها عند اللزوم؛ لأن النظام نص على الحد الأدنى لعدد مرات الانعقاد لا على حدها الأعلى، وكل ذلك لضمان أن تواكب جلسات المجلس كل حدث، أو حاجة طارئة تهم القضاء والقضاة، كما سيجعل جميع القضاة على بينةٍ من أمرهم، لا كما يرونه اليوم من غموضٍ في بعض الإجراءات وتعقيدٍ في بعضها الآخر، كما أن ذلك سيرفع من درجة أداء المجلس على نحوٍ أفضل. إن استشعار أمانة المجلس الأعلى للقضاء بأنها إنما أنشئت لتيسير شؤون القضاء، ولتسهيل وصول القضاة إلى حقوقهم المناطة بالمجلس سيجعلها تسعى جاهدةً للقيام بما هو مطلوبٌ منها؛ دون خروجٍ عما يجب عليها في حدود اختصاصها.