تدارس المجلس الأعلى للقضاء في جلسته الثامنة عشرة موضوع ترقية القضاة، وهل تحتسب من تاريخ انعقاد الجلسة التي يقرر المجلس فيها الترقية، أم تكون اعتبارا من تاريخ استحقاق القاضي؛ وإن تقدم على موعد الانعقاد؟

شهدت الجلسة اختلافا مؤثرا يهم كل قضاة المملكة ولاشك، فمال ثلاثة من الأعضاء إلى الخيار الذي يرجوه كل قاض وخالفهم باقي الأعضاء، فصدر القرار بالأغلبية في غير صالح القضاة.

وبعد انتهاء الجلسة علم القضاة بخبر القرار، فتناقلوه فيما بينهم، وألقوا باللائمة على الأكثرية المعطلة في وقت كان بإمكان المجلس الموقر أن يقترحوا الخيار الأفضل، ويتركوا أمر اعتماده لولاة الأمر الذين لا يردّون أمرا فيه مصلحة مرفق القضاء ورجاله.

إن للقضاء والقضاة مكانة خاصة في نفوس ولاة الأمر - وفقهم الله - توارثوها كابرا عن كابر، وجبلوا عليها كما جبلوا على إرادة كل ما فيه خير لوطنهم ومواطنيهم، ولكن المجلس الموقر غفل عن استشعار هذه الصفة الكريمة، ولم يستصحبوها وقت دراسة ما يهم القضاء السعودي، فخرجت النتائج مبتورة كالحة.

إن مضمون القرار الأخير ينبئ عن الانفصام التام بين المجلس وبين آمال وطموحات وتطلعات أفراد القضاة، ويدل على أن المجلس لا يساس بذات الطريقة التي يتعامل بها ولاة الأمر مع هذا الكيان الهام من بين كيانات الدولة وسلطاتها، الأمر الذي يجعل من الواجب المبادرة إلى إعادة النظر في تشكيل المجلس؛ ليتفق مع سياسة الدولة.

إن ميزة ترقية القاضي اعتبارا من استحقاقه الترقية شأن من شؤون القضاة، وبإمكان المجلس أن يضمنها في لائحة شؤونهم الوظيفية التي تعسرت ولادتها أكثر من ثلاث سنوات، كما بإمكان المجلس أن يستشهد لها بما عليه حال إخواننا العسكريين، ومن المعلوم: أن الأمن القضائي لا يقل أبدا عن الأمن العام في الداخل والخارج، بل هما نتيجة للأمن القضائي بدليل قول الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله: {الّذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون}.

لقد تكاثرت قرارات المجلس المحبطة لأفراد القضاة، وترادف عليهم ما يلمسونه من تهاون بحقوقهم على الرغم من إيمانهم الصادق بأن الدولة لن تبخل عليهم بأي شيء من شأنه أن يكفل لهم ما يليق بهم، وما يجعلهم في مصاف رجال القضاء في الدول المتميزة في أنظمتها وقوانينها.

إن الصدمة التي تلقاها القضاة في جميع مناطق المملكة من ذلك القرار المجحف كان لها الأثر في ردود أفعال يائسة بائسة، وأنى لهم غير ذلك؟، لطف الله بهم وبمرفقهم.

ولو أن المجلس اقترح لهم ما يرجون، ثم رفض اقتراحهم من الجهات العليا: لوجد القضاة لهم العذر، ولقبلوا بقرار الرفض؛ لأنهم يعتقدون جازمين أن الدولة - أيدها الله - لن تتأخر عما يخدم مصالحهم متى لم يتعارض مع مصلحة الأمة جمعاء، غير أن الرفض إنما جاء من قبل المسؤولين عن رعاية شؤون القضاء والقضاة في وقت يعلم فيه الكل بخطأ القرار وعدم مناسبته لما يأملونه.

ومن طرائف آثار هذه الصدمة أن سطر أحد القضاة الفضلاء رسالة هاتفية تناقلها القضاة فيما بينهم، وكتب فيها عتبا على إخوانه القضاة من إشاعة خبر هذا القرار السلبي في الوقت الذي أهملوا فيه إشاعة خبر لائحة الشؤون الوظيفية للقضاة التي اعتمدها المجلس بداية هذا العام، ونسي فضيلته أن اللائحة التي امتن بها على زملائه القضاة لا تعبر عن ما يؤملونه من مجلسهم، وأن مثلها لا يستحق أن يذكر ، فضلا عن أن يشاد به.

كما فاته حفظه الله أن اللائحة وقبل اعتمادها قد سرب خبرها إلى إحدى كبريات الصحف المحلية، مما تسبب في تأخير صدورها قرابة العام، وفي إلحاق جزاءات مالية بناشريها، وكادت المساءلة تلج ذلك الكيان لولا أن أحد النبلاء جعل من نفسه لبعضهم فداء.

قد يظهر في الوهلة الأولى من الرسالة: أن كاتبها أراد توصيل شكايته وتبليغ حاجته، فقدم ملامته زملاءه؛ لتكون قربانا لتحقيق بغيته، لولا أنه ممن ظلموا بالحرمان من الترقية، وبتأخير النقل، وبتقليل الدرجة المستحقة له أثناء التفتيش الدوري كما جاء في رسالته، أي: إن ما وقع على فضيلته من المجلس ظلم ثلاثي الأبعاد ومركب تركيبا تكعيبيا ومع ذلك أبى إلا أن يلقي باللائمة على زملائه في تذمرهم من قرار يحرمه ويحرمهم من حق يقضي على بعض ما أسماه مظلمة وقعت عليه.

ولأن من يصاب بمثل هذا المصاب من مخلوق - وبلا سبب مقبول - لا يعقل منه أن يحمد ظالمه على ظلمه إياه، فالمحمود على كل حال هو الرحمن الرحيم سبحانه، ولذلك: يخشى على من هذه حاله أن يفقد ملكة التسبيب الصائب، وأن يشكل عليه تنزيل الأحكام على وقائعها، ثم إني بعد قراءتي رسالة التأنيب من الزميل اللبيب تذكرت أبا الطيب المتنبي حيث يقول:

ألحّ عليّ السّقم حتى ألفته = وملّ طبيبي جانبي والعوائد

وأيقنت أن حال صاحبنا أشد تأثرا من حال أبي الطيب الذي ألح عليه السقم حتى اعتاده وألفه، لأن أخانا قد ألح عليه الظلم حتى أحبه وكلف به، وتلك منزلة أبلغ من منزلة الاعتياد والألفة.

إنني إذ أشكر الأعضاء الثلاثة الكرام الذين خالفوا القرار لأدعو الذين وقعوا على القرار إلى إعادة دراسة موضوعه مرة أخرى، بعد الاطلاع على أنظمة الخدمة العسكرية، وسيجدون فيها من المزايا ما لم تبخل به الدولة على منسوبي القطاعات الأمنية دون استثناء منذ وقت بعيد، وأن لا ينسوا عند دراسة الموضوع ثانية أن يتصوروا أن عدد القضاة بالنسبة إلى عدد العسكريين لا يبلغ واحدا في المائة.

كما أدعو المجلس إلى إمعان النظر في كل أمر يشرعون في دراسته قبل التورط بالإقدام على قرار خاطئ أو قاصر، وإلى السعي الجاد في كل ما ينفع القضاة؛ حتى تزول معه كل آثار التذمر والإحباط اللذين لا يفارقان السواد الأعظم من القضاة منذ تشكيل المجلس الحالي، وحتى لا تتكرر حالات اليأس والقنوط واستمراء الألم، فتؤثر على عمل القاضي وحسن إدارته لقضاياه، وتصرفه عن الاستدلال إلى الحكم الموافق لأسبابه بلا وكس ولا شطط.