في أرض الرافدين، وعلى جنبات شارع المتنبي، وصدى أشعاره الخالدة التقى الوفد السعودي بكل مكونات الشعب العراقي، حكومة وشعبا، ففاحت ذكريات الماضي وعبق التاريخ، وسالت دموع الشوق وطغت مشاعر الإخاء الصادق على كل ما سواها. كانت المشاعر جياشة جارفة، والحب يغلب على كل ما سواه، لذلك كانت ردود الفعل الشعبية منسجمة تماما مع معطيات الواقع. في تلك الأجواء المفعمة بالمشاعر دارت أعمال الدورة الثانية لمجلس التنسيق، فكانت النتائج مذهلة، ففي الوقت الذي تم فيه الإعلان عن هدية الملك سلمان لشعب العراق ببناء مدينة رياضية، ودعم العراق بمليار دولار، وإنشاء أربع قنصليات في ثلاث مدن عراقية، تم كذلك التوقيع على ثلاث عشرة اتفاقية ومذكرة تفاهم بين الجانبين، وإتاحة الفرصة للسعوديين للاستثمار في العراق بما يبلغ عدده 189 فرصة استثمارية.
ولمن لا يقرؤون التاريخ ولا يجيدون النظر إلى حقيقة الأشياء، ولا يعترفون بالواقع ويحاولون إنكار ضوء الشمس من رمد، فإن هذه سياسة المملكة التي عرفت بها على الدوام، وأفعالها التي تتحدث عن نفسها ولا تحتاج لمن يشير إليها، وهي سياسة واضحة قائمة على ما بات يعرف باقتصاد الإنسانية والحب، المبني على الرغبة في مد يد العون والدعم، مع اقتصاد الأرقام القائم على المصالح المتبادلة والحرص على تطوير الواقع وتعزيز قيم الاعتماد على الذات، وتقديم كافة أشكال الدعم، سياسيا واقتصاديا ولوجستيا، ونقل الخبرات، وهي سياسة تترجم منتهى العقلانية وتعكس الإصرار على استدامة التنمية. ليس هذا فحسب فعلاقات الرياض وبغداد لم تركز فقط على الجانب الاقتصادي، بل إن الجانب الأمني كان حاضرا على الدوام، لأن أمن أي منهما واستقراره مرتبطان أشد الارتباط بالآخر، لا سيما في هذا الوقت الذي مني فيه الدواعش بهزيمة مفصلية، لذلك كان التنسيق ضرورة ملحة لضمان عدم عودة التطرف والإرهاب مرة أخرى، تحت أي شكل وبأي مسمى.
على الجانب الآخر أبدت حكومة الملالي في طهران - كعادتها - انزعاجا شديدا من الزيارة وقلقا كبيرا من نتائجها، لدرجة أن مرشدها على خامنئي تخطى كافة الأعراف الدبلوماسية، وتخلى عن كل وقار وهو يطلق تصريحه الذي أثار سخرية الآخرين وتندرهم، عندما قال إن «التقارب السعودي العراقي لا يعكس حقيقة موقف الرياض»، وهو لا يرمي من وراء هذا التصريح الملغوم إلا لإبقاء العراق بعيدا عن حضنه العربي، وأن يظل سوقا لمنتجات طهران الراكدة وبضائعها الكاسدة، لأنه يعلم علم اليقين أن إعادة افتتاح معبر عرعر الحدودي بين البلدين ستجعل بغداد في غنى عن أي تعاون اقتصادي مع طهران. كما يريد في ذات الوقت أن تبقى أرض الرافدين ومهد الحضارة الإسلامية العريقة أسيرة سياساته المدمرة، وملعبا تعيث فيه ميليشياته الطائفية فسادا، لا لشيء إلا تحقيقا لأوهامه المتمثلة في خرافات الإمبراطورية الفارسية التي غربت عنها الشمس، ولن تجد سبيلا للعودة على أرض الواقع.
هذه هي علة النظام الإيراني، فهو لا يجيد قراءة الواقع، ولا يريد الاعتراف بالحقيقة المريرة التي تعيشها بلاده، ولا التماهي مع معطيات الحقائق التي تشير بوضوح إلى أننا نحيا عصر الإنجاز والإنتاج، وأنه لا مكان في عالم اليوم لمن لا يجيد سوى تقديم أدوات الموت والدمار من بنادق ورصاص وألغام وميليشيات تقتل الأبرياء وتقتلع الأشجار، ويسارع في إنشاء السجون والمعتقلات، ويغل يده في ذات الوقت عن تقديم وسائل الحياة ويمسكها عن دعم افتتاح المدارس والجامعات، لذلك لم يعرف عنه المسارعة والمشاركة في مؤتمرات دعم العراق، وآخرها ذلك الذي عقد في الكويت وتجاوبت فيه كافة الدول العربية، فيما اكتفى هو بموقف المتفرج. وهذا هو الفرق بينه وبين المخلصين الذين يقفون مع إخوتهم في أوقات الشدائد وأزمان المحنة.