متعب القرني

بينما أكتب رسالة الدكتوراه عن النحو الصرفي لتركيبة الاسم والعدد في اللغة العربية الفصحى، كان من واجبي قراءة أعمال باحث إسرائيلي كتب عن الاسم في العربية والعبرية وما يلحقها من قضايا كالمضاف والمضاف إليه والصفة والعدد وأل التعريف وغيرها. فاطلعت على مجمل أعماله منذ رسالته للماجستير عام 1996 حتى آخر أوراقه المنشورة عام 2013 في مجلة عالية التصنيف. كشفت لي هذه المراقبة اللصيقة أن أعماله البواكير متدنية أسلوبا وخطابا، ثم أحرز تقدما مذهلا على مستوى الكتابة الأكاديمية، وازدادت نصوصه دقة وصرامة وكأنما ينسجها ناطق أصلي للغة الإنجليزية.

ولشدة اندهاشي من هذا التقدم، بعثت إليه بريديا لأستبين أمره وطريقته، ولأنهج منهجه في التعلم الذاتي، فكان ردّه على النحو الآتي «لقد قرأتُ الكثير من الأعمال المتخصصة، لكنَّ خير ما طوّر كتابتي هي إستراتيجية «التجربة والخطأ» فقد كنتُ أحاول التعبير عن نفسي ثم أخطئ وأصوّب ذاتي وأعيد التعبير، وهكذا وصلت إلى ما تراه». فما إن بلغني ردّه، تتبعت إستراتيجية «التجربة والخطأ» (Trial and Error ) فألفيتها منهجية أساسية في حل المشاكل عموما، ثم استرجعت ما كنت أفعله أيام دراستي الجامعية، فقد كنت أدوّن قائمة بالكلمات العربية والإنجليزية، ثم أغطّي الكلمات الإنجليزية وأمتحن نفسي عن مرادف الكلمة العربية المعطاة، فأخطئ ثم أنظر فأصوب. لا أزال أذكر إلى اليوم بأن ما أخطئ فيه وأصوبه يعلق بذاكرتي بخلاف ما أتسرع في نيل إجابته على النحو الأسهل، ولقد قيل «لا مكاسب بلا متاعب» (No pain, No gain).


لقد كان عالم النفسي البريطاني كانوي مورغان (1852-1936) أول من أشار إلى هذه المنهجية في التعليم، بعد أن رأى ذهول الناس من قدرة كلبه الصغير (توني) في فتح باب الحديقة، فأكد أن الناس رأت السلوك الأخير، لكنها لم ترَ ما رصده عن كلبه من محاولات متكررة فاشلة سبقت هذا الإنجاز. فيمكن تفسير سلوك الحيوان بأبسط الطرق المحتملة، أما حين يُظهر الحيوان سلوكا غريبا يتطلب قدرة ذهنية عالية، فإن وراء هذا السلوك إستراتيجية «التعلم بالتجربة والخطأ». كما أفصح العالم الاقتصادي الأميركي جيمس هيكمان (1944-) الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2000، عما يعتقده من أساسيات في تعليم وتربية الأطفال، في كتابه «منح الأطفال فرص عادلة: إستراتيجية عملية، 2013»، عن الإستراتيجية ذاتها، فقال في أحد الحوارات المتلفزة «لست المختص في تقديم وصايا تربوية، ولكن ما أراه سمة متسقة في التعلم الناجح هو ترك الأطفال يفشلون. وقد تبدو نصيحة غريبة ولكن التجربة ثم الفشل هي أعظم مصادر التعلم. لا أؤيد تربية الهيلوكوبتر، حيث يحلق الأبوان على طفلهما كالهيلوكوبتر ليحمياه من احتمالية الأذى. من المهم لأي شخص أن يجرب الأشياء ثم يفشل لكي يتعلم، فربما يجد طريقة أنسب لأداء المهمة التي فشل فيها».

بقي أن نقول إن على الطلاب أن يوظفوا هذه الإستراتيجية النافعة مع دنوّ الاختبارات النهائية، لكونها فعالة في التذكر والتعليم. فليسمح الطالب لنفسه بأن يُجرّب ويفشل، فيعرف من خلال هذه التجارب ثقوب ذاكرته الحافظة وعيوب أدواته التحليلية قبل الجلوس لأداء الامتحان. ركّز واقرأ واحفظ، وادرس وحلل وتدرّب، والأهم أن تعد ورقة الاختبار المخيف بيدك لتقيّم هذه العمليات التحصيلية. اسأل نفسك أسئلة المحقق المستفهم، واسمح لها بأن تُجيب عن الأسئلة ولو خطأ. لا تهرع للتفتيش عن الإجابة الصحيحة كي تنجو من متواليات الحسرة والندامة. ضع إجابتك أولا، فلربما أخطأت فتعلمت. التجربة الفاشلة لا تهز ثقتك بنفسك، التجربة الفاشلة صمام الأمان الذي يحميك من تكرار الأخطاء.