تنطلق أهمية كتاب إداورد سعيد عن فرويد، وتتجلى في إقحامه عالم النفس النمساوي، الذي رحل عن عالمنا قبل نشوء دولة إسرائيل بتسع سنوات، في العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين, وهي علاقة مشحونة بالصراع لا على الأرض فقط، بل على الهوية أيضا التي يبحثها كتاب إدوارد سعيد عن فرويد وغير الأوروبيين.

الهواجس العصابية

يعيد إداورد سعيد في كتابه «فرويد وغير الأوربيين» النظر إلى علاقة عالم النفس اليهودي سيجموند فرويد بمفهوم الآخر، وصلته بديانته اليهودية، ووقوعه بصورة أو بأخرى أسير المركزية الغربية، التي دفعته للنظر إلى اليهود بوصفهم جزءا من سياق الحضارة الغربية المتفوقة، وفصلهم عن خلفيتهم الحضارية المشرقية. ويفسر سعيد رغبة فرويد بجعل الديانة اليهودية جزءًا من نسيج ثقافة الغرب، انطلاقًا من الواقع السياسي والثقافي الذي عاش فيه فرويد سنواته الأخيرة، في النصف الثاني من ثلاثينيات القرن الماضي, وبزوغ العداء لليهود في ألمانيا والنمسا، وحالة الرعب التي تلبسته من التعامل مع التحليل النفسي، بوصفه علمًا يهوديًا مبنيًا على الوساوس والهواجس العصابية الخاصة بعدم ثبات الهوية.


رحيل قسري

كتاب إدوارد سعيد كان في الأصل محاضرة، طلبت منه جمعية فرويد في فيينا إلقاءها عام 2001، ثم تراجعت الجمعية عن طلبها عندما تعرضت للضغط من قبل الجماعات اليهودية - الصهيونية في النمسا، فألغت المحاضرة ليدعو متحف فرويد في لندن سعيد لإلقائها. و قدم سعيد في المحاضرة، وقدم الكتاب البروفيسور كريستوفر بولاص، الذي ألقى بعض الضوء على تجربة المنفى في حياة إدوارد سعيد، ورحيله القسري في صباه عن مسقط رأسه القدس، وقراءة سعيد لكتاب فرويد «تأويل الأحلام» في كتابه «بدايات» الذي أصدره عام 1975، أي قبل ما يزيد على ربع قرن من عودته ثانية، للبحث في ميراث فرويد حول صورة الآخر، واليهودي بصورة خاصة في المجتمعات الأوروبية.

إسرائيل القديمة

رأى سعيد أن عالم النفس النمساوي فرويد، كان يقيس معرفته بالثقافات غير الأوروبية، خصوصا ما يتعلق بالفرضيات الإنسانية والعلمية، على تعليمه المستند إلى التراث اليهودي - المسيحي، ويشدد سعيد على أن هذا الانتماء الوسواسي المزعج إلى ثقافة محددة بعينها، يضفي على عمل فرويد العلمي والثقافي طابعا غربيا بالأساس، وهو الأمر الذي يتناقض مع تأكيده في كتابه الشهير «موسى والتوحيد» على مصرية موسى، الذي اختاره اليهود ليكون نبيهم في رحلة التيه. وعلى الرغم من اطلاع فرويد - غير العميق ربما - على الثقافات العربية والصينية والهندية، والبدائية غير الغربية، من خلال كتاب جيمس فريزر «الغصن الذهبي» على الأغلب فيما يتعلق بالثقافات البدائية، فقد ظل مسحورا بقصص اليونان وروما وإسرائيل القديمة.

تحت العباءة

ينطلق إدوارد سعيد ليعيد صياغة نظرة فرويد للهوية، بالرغم من أنه يشير إلى أن معالجة فرويد للهوية اليهودية، مشوبة بالكثير من الوهن والضعف في الصفحات الأخيرة من كتاب «موسى والتوحيد» عندما يقول إن اليهود ليسوا عرقا آسيويًا غريبا، بل إنهم يتشكلون في أكثريتهم من بقايا الشعوب المتوسطية. ومن ثم فإن اليهود في نظر فرويد ليسوا غرباء عن سياقهم الأوروبي. ولنتذكر، حسب ما قاله سعيد، أن فرويد كثيرا ما أشار إلى نفسه بوصفه ألمانيًا لغة وثقافة، ويهوديًا فيما يتعلق بالديانة، دافعًا اليهود تحت العباءة الأوروبية.

اليهود في فلسطين

يعيد سعيد موضعة نظرة فرويد إلى الديانة اليهودية، وأصل موسى في السياق الراهن، معلقا على نزعة معاداة السامية في أوروبا، والتي ساعدت على نشوء دولة إسرائيل اليهودية في أرض غير أوروبية، وعلى تقليص إسرائيل لعناصر هويتها لتصبح هوية نقية خالصة، ذات أصل تاريخي لم يتم تلويثه على الإطلاق! ويرى سعيد أن هذه النظرة العرقية، التي منحت اليهود في فلسطين حقوقا حصرية في الهجرة وامتلاك الأرض، تعارض تماما تذكيرات فرويد، بأن مؤسس الديانة اليهودية لم يكن يهوديا، وأن الدين اليهودي خرج من رحم العقيدة المصرية التوحيدية. إن التشريعات الإسرائيلية تشدد على إلغاء ظاهرة انفتاح الهوية اليهودية على جذورها غير اليهودية، وهو ما يخالف بوضوح نظرة فرويد وتحليلاته لطبيعة هذه الهوية.

أعمال بيتهوفن الموسيقية

استشهد سعيد في كتابه بالأعمال السردية للروائي البولندي الأصل، الإنجليزي الجنسية جوزيف كونراد، وكتابات الناقد الألماني إريك أورباخ، وكتاب فرانز فانون «معذبو الأرض»، وأعمال بيتهوفن التي أنتجها في السنوات السبع أو الثماني الأخيرة من حياته، ليقيم نوعًا مما يسمّيه القراءة الطباقية، التي ابتدعها في كتابه «الثقافة والإمبريالية». وهو مسكون في هذه القراءة بإعادة تأويل فرويد واستعماله، في هذا السياق من التحليل المقارن، لخدمة أغراض معاصرة تتعلق بتفسير مفهوم الهوية، وتلاقح الثقافات واندماجها، وإعادة تشكيلها في ضوء التجارب الخاصة، والتوصل إلى مفهوم مركب هجين للهويات في زماننا المعاصر.

ويقارن سعيد كتابات فرويد الأخيرة، بأعمال بيتهوفن الموسيقية الأخيرة التي كان فيها الموسيقي الألماني يؤلف أعمالاً «توقف شعر الرأس لصعوبتها».