الغضب الذي يفجره حزب حركة النهضة الإسلامي في تونس، يذكر بغضب الإخوان في مصر مع نهاية عهد محمد مرسي، لكن تراجع دور الحزب، يشير بشكل ما إلى أفول نجم حركات الإسلام السياسي الذي جاء في أكثر من بلد بفساد لم يقل عن الفساد الذي سبقه في عهد الديكتوريات، وجاء بتواضع وفشل اقتصادي ترجم باستمرار البطالة وتدهور الخدمات وتردي الأوضاع عموما.
ما يحدث في تونس 2021، يشبه ما حدث في مصر 2013، ويؤكد مرة جديدة أن حركات الإسلام السياسي لم تنجح في تحقيق المطلوب على مستوى القيادة والسلطة، ما يؤكد الخلل في تركيبتها وبنيتها، حيث لم تمكنها هذه البنية من تحقيق التماسك المجتمعي، وبناء اقتصاد قوي.
ارتباط بالنشأة
تكاد المآلات التي تشرف جماعة الإخوان المسلمين على الانتهاء إليها، تؤكد أنها محصلة طبيعية لظروف النشأة والتطور،
في مذكرات حسن البنا التي نشرها بعنوان «مذكرات الدعوة والداعية» حديث مستفيض عن ظروف نشأة الجماعة وعلاقاتها بالدولة والمجتمع المصري.
ما يمكن استخلاصه من هذه التجربة التأسيسية التي بدأت عام 1928 هو أن جماعة الإخوان المسلمين نشأت في مرحلة اتسمت بثلاث سمات كبرى هي: الجدل الذي طبع الحقل الديني والفكري بعد نهاية الخلافة سنة 1923 إثر إعلان مصطفى كمال أتاتورك قيام الدولة العلمانية الوطنية في تركيا، وقيام تجربة ليبرالية حزبية نشطة في مصر، تركزت حول حزب الوفد الذي هو حزب النخبة الوطنية التحديثية وبداية بروز مشروع صهيوني في فلسطين برعاية بريطانية.
كانت اللحظة مؤاتية للجماعة التي أسسها المدرس الشاب حسن البنا في مدينة الإسماعيلية العمالية.. لقد انحسر المشروع الإصلاحي التجديدي للإمام محمد عبده في سعيه لتحديث الدين وإصلاح المجتمع، ويبدو أن تلميذه رشيد رضا ذهب في خط محافظ ومتشدد.. كما أن الموجة التي خلفها كتاب العالم الأزهري علي عبدالرازق «الإسلام وأصول الحكم»، الصادر عام 1925 أدت إلى الانتصار لشكل الخلافة على الرغم من أنها كانت جثة هامدة منذ أمد بعيد.
ومع ذلك لم يتحمس الأزهريون لخطاب البنا الذي كان يتمحور حول مقولته الشهيرة «الإسلام دين ودولة ومصحف وسيف».. كانت الدعوة نشازا مع الدرس الأزهري وخروجا عن تراث فقهي كامل، طالما اعتبر مسائل الإمامة من الظنيات والفروع، ولا شأن لها باعتبارات الأحكام الشرعية القطعية.
أما النخب الوطنية التي قارعت الاستعمار طويلا وورثت ثورة 1919 الشهيرة فرأت في الدعوة الجديدة تمزيقا لوحدة الشعب المصري المتنوع دينيا، وإقحاما غير مشروع للإسلام في موازين الصراع السياسي.
لقد حاول البنا استمالة القصر، وخاطب الملك فاروق بمقولته المعروفة «إن الإخوان المسلمين يلوذون بعرشكم وهو خير ملاذ»، وتدل كثير من المؤشرات على أنهم تواطأوا معه للتخلص من رموز الحركة الوطنية الوفدية، وفي مقدمتهم رئيس الحكومة محمود فهمي النقراشي، الذي أُتهمت الجماعة باغتياله في ديسمبر 1948 بعد أيام من صدور قرار حلها.
ومع أن الخطاب الرسمي للجماعة ينفي مسؤوليتها عن اغتيال النقراشي، إلا أن عددا من كتابها أقروا بوجود جهاز سري خاص شكله البنا هو المسؤول عن عمليات العنف التي اتهمت بها الحركة.
دماء المنشية
أُغتيل البنا في 22 فبراير 1949، قبل 3 سنوات من الثورة التي قادها جمال عبدالناصر، وقد كان عبدالناصر وعدد من زعماء حركة الضباط الأحرار قريبين من الإخوان أو منتمين للجماعة من بينهم إلى جانب عبدالناصر، عبدالمنعم عبدالرؤوف، وكمال الدين حسين، وخالد محيي الدين.. وعندما حل نظام 23 يوليو الأحزاب السياسية أبقى على جماعة الإخوان المسلمين، بل قرب رموزها ومن بينهم الأديب الكاتب سيد قطب، الذي انضم إلى الإخوان عام 1950، وقد عين أمينا عاما للتنظيم السياسي الذي شكله الضباط الأحرار باسم «هيئة التحرير».
بيد أن القطيعة سرعان ما تمت بين نظام جمال عبدالناصر والإخوان.. كانت البداية في مقالات سيد قطب الحادة التي هاجم بها الثورة في مجلة «الرسالة» بعد أن حرض في مقالات عدة على الأحزاب والحركات السياسية والتنظيمات الأخرى.
كان سيد قطب قد بدأ منذ مطلع الخمسينيات سلسلته الإسلامية «العدالة الاجتماعية في الإسلام» (صدر 1949)، و«معركة الإسلام والرأسمالية»، و«السلام العالمي والإسلام»، وهي كتب بمنطق تلك المرحلة تنويرية وحداثية.. لكنه تحول منذ منتصف الخمسينيات إلى خط التشدد والراديكالية.
في 26 أكتوبر 1954 كانت حادثة المنشية الشهيرة حين تمت محاولة اغتيال جمال عبدالناصر، واتهمت جماعة الإخوان بالعملية، واعتقل عددا من قياداتها من بينهم المرشد حسن الهضيبي وسيد قطب، ومفكر الجماعة المعروف عبدالقادر عودة الذي أعدم مع 6 من أعضاء التنظيم.
على عكس شخصية الأديب الناقد «سيد قطب» كان عبدالقادر عودة قاضيا وقانونيا، عمل في كتاباته على إخراج مشروع البنا في الدولة الإسلامية إلى برنامج عمل تفصيلي من خلال كتبه المنشورة «الإسلام وأوضاعنا القانونية»، و«الإسلام وأوضاعنا السياسية»، و«التشريع الجنائي في الإسلام».
أما سيد قطب فقد اشتغل في سجنه بكتابة تفسيره للقرآن الكريم «في ظلال القرآن»، الذي بلور فيه خط الجماعة الجديد المرتكز على فكرة الحاكمية الإلهية، ودور «الطليعة المؤمنة» في نشر الدين مع عزلة المجتمع الذي اتهمه بالرجوع إلى الجاهلية والانحراف عن الدين، ولقد شكلت هذه الأفكار التي فصلها في كتابه «معالم في الطريق»، الذي أصدره قبل إعدامه 1966 أساس الرؤية الإخوانية للسياسة والدولة والمجتمع.
تعني الحاكمية بالنسبة لقطب تكفير أنظمة الحكم وتبرير الخروج عليها، بل واعتزال المجتمع ورميه بالانسلاخ من الإسلام، وهو النهج الذي أصبح خطأ مألوفا لدى جماعات الإسلام السياسي.
عودة الروح
مع حقبة السبعينيات وخروج قيادات الجماعة من السجون في عهد السادات وعودة النشاط الفكري والإعلامي للإخوان، برز توجهان جديدان لدى التنظيم: السعي لبسط النفوذ على المجتمع من خلال العمل الخيري والإنساني والنشاط الدعوي مع مهادنة نظام الحكم، وإقرار مبدأ التحالف المصلحي مع القوى السياسية الأخرى للوصول إلى المؤسسات التمثيلية المنتخبة من برلمانات ونقابات وجمعيات أهلية.
لقد مكنت هذه الإستراتيجية جماعة الإخوان المصرية من العودة بقوة إلى الشارع المصري والتحكم في عدد من النقابات والوصول إلى البرلمان عن طريق التحالف مع الأحزاب الأخرى.
ولم يتأثر كثيرا وضع الجماعة مع اعتقالات سبتمبر 1981 وما تلاها من عملية اغتيال الرئيس أنور السادات التي كانت جماعات إسلامية متطرفة مسؤولة عنها.. بل إن وضع الجماعة بقي على حاله طيلة فترة حكم الرئيس محمد حسني مبارك، الذي وضع خطوطا حمراء للإخوان لم يتجاوزوها في الغالب.
مسارات التمدد
كانت فترة الثمانينيات هي مرحلة توسع الجماعة في العالم العربي الإسلامي، ومع أن الحركة أنشأت منذ الأربعينيات فروعا نشطة في سورية والعراق ولبنان، إلا أن العصر الذهبي لفكر الإخوان كان في الثمانينيات. في تلك الحقبة انتقل مركز ثقل الفكر الإخواني إلى تونس والسودان، وانطلقت تجربة صعود الإسلام السياسي في تركيا وباكستان، إضافة إلى قيام ثورة إيديولوجية إسلامية في العالم الشيعي بإيران، حيث تأثرت حركة ولاية الفقيه بأطروحات الإخوان، وبصفة خاصة مدرسة سيد قطب الذي ترجم أعماله للفارسية المرشد الحالي علي خامنئي.
في تونس تأسست «حركة الاتجاه الإسلامي» في 6 يونيو 1981 وسرعان ما أصبحت المختبر الفكري للإخوان بخطابها الذي يبدو نقديا وحداثيا ومتصالحا مع الديمقراطية، حملت مجلة «المعرفة» وكتابات راشد الغنوشي وعبدالفتاح مورو هذا الفكر الجديد، الذي تضمنه كتاب الغنوشي الذي صدر في التسعينيات باسم «الحريات العامة في الإسلام». وفي السودان شكلت مدرسة حسن الترابي محطة هامة في مسار التنظيم الإخواني العالمي، واتسمت بالنزعة النقدية الصارمة ضد الفكر الإخواني التقليدي، وبعد أن شاركت في التجربة الديمقراطية القصيرة التي عرفها السودان من 1986 وحتى 1989، انقلبت على الحكومة المنتخبة وتحالف زعيمها الترابي والعسكري عمر البشير في حركة التمرد العسكري التي عرفت بثورة الإنقاذ.
في سنة 1983 أسس القيادي الإخواني التركي نجم الدين أربكان حزب الرفاه، وشارك في الانتخابات البرلمانية واستطاع بعد سنوات تصدر المشهد السياسي في إطار التجربة التي وصلت حدها الأقصى مع سيطرة حزب العدالة والتنمية على الأمر في اسطنبول منذ 2002 إلى اليوم. وفي سنة 1977 انقلب الجنرال ضياء الحق على الحكم الديمقراطي في باكستان، وأسس نظاما ديكتاتوريا متحالفا مع «الجماعة الإسلامية» (النظير المحلي للإخوان)، وأعلن إجراءات تطبيق الشريعة قبل أن يغتال سنة 1988. لقد شكلت هذه التحولات مرحلة جديدة في تاريخ الإخوان الذين أصبح لهم وجود في أغلب بلدان العالم الإسلامي، وأصبحوا يطمعون في السلطة، ويستثمرون الهوامش المتاحة للحركة من أجل الانقضاض على أنظمة الحكم، كما شكلوا أذرعا قوية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
ومع أن الإخوان مالوا منذ مطلع التسعينيات إلى مهادنة أنظمة الحكم ورفعوا شعار «ترشيد الصحوة» التي كتب فقيههم الأول يوسف القرضاوي كتبا كثيرة حوله، إلا أن موجة ما سمي بالربيع العربي اعتبروها فرصة ملائمة لافتكاك الحكم عن طريق تعبئة الشارع واستخدام الورقة الانتخابية للوصول إلى السلطة.
الربيع العربي
كان دور الجماعات الإخوانية محدودا في تفجير «الثورات العربية» الأخيرة، لكنها كانت القوة الوحيدة المنظمة على الأرض، ولذا استطاعت الاستفادة من الفراغ الكبير الذي خلفه سقوط الأنظمة من أجل تصدر نتائج الانتخابات والوصول إلى السلطة.
ومع أن أحداث العنف التي مزقت الجزائر وعصفت بأمنها واستقرارها في بداية التسعينيات كانت حاضرة في كل الأذهان، إلا أن الإخوان لم يستفيدوا من التجربة، ولم يدركوا أن الشرعية الانتخابية لا تمنح حق التحكم الانفرادي في السلطة وتفكيك مؤسسات الدولة وإلغاء الأطراف السياسية الأخرى.
في سنة 2012 أصبحت الأحزاب المنضوية في الاتجاه الإخواني حاكمة أو مشاركة في الحكم في عدد من دول المنطقة من مصر إلى تركيا وتونس والمغرب والسودان وليبيا.. بيد أن التجربة الإخوانية في مصر سرعان ما فشلت أسوأ الفشل، وكادت تودي بالبلاد إلى التحلل والتفكك لولا ثورة 30 يونيو 2013 التي كانت انتفاضة عارمة ضد الحكم الإخواني.
وقد تلى هذا الزلزال هزيمة الإخوان في ثاني استحقاقات برلمانية في ليبيا، بالإضافة لانتفاضة الشارع التونسي الأولى ضد حركة النهضة، ثم الثورة الشعبية في السودان التي أسقطت نظام الإنقاذ الذي قاده عمر البشير.
أما تركيا قبلة الإخوان الجديدة فقد دخلت في منحدر التردي، وأصبح من الجلي في مواجهة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي تعاني منها البلاد أن خيار الإسلام السياسي التركي فقد جاذبيته ولم يعد يشكل نموذجا للاحتذاء في العالم الإسلامي. بناء على كل هذه المعطيات، يمكن القول إن ما يحدث اليوم مع الانتفاضة التونسية الأخيرة وقرارات الرئيس قيس سعيد الشجاعة هو نهاية العصر الإخواني فعلا.
محطات إخوانية مهمة
1928: تأسست الجماعة
1948: اغتالت رئيس الحكومة المصري محمود فهمي النقراشي
1949: أغتيل مؤسس الجماعة حسن البنا
1954 : حاولت اغتيال الرئيس المصري الأسبق جمال عبدالناصر
1966 : أعدم منظر المجموعة سيد قطب
1977 : انقلب ضياء الحق على الحكم في باكستان وأسس نظاما متحالفا مع الجماعة
1981 : تأسست «حركة الاتجاه الإسلامي»
1986 ـ 1989 : شاركت في الحكم في السودان
1983 : أسس القيادي الإخواني التركي نجم الدين أربكان حزب الرفاه
2002: سيطر حزب العدالة والتنمية على مقاليد الحكم في تركيا
2012 : أصبحت الأحزاب المنضوية في الاتجاه الإخواني حاكمة أو مشاركة في الحكم في عدد من دول المنطقة
2013: ثورة يونيو تطيح بالإخوان من حكم مصر
دول فشل الإخوان في حكمها أو المشاركة في حكمها
مصر
تونس
السودان
تركيا
المغرب
ليبيا