لا يمكن للإنسان السوي أن تكون حياته بلا عثرات أو كبوات تُخرجه عن الإطار العام في سير حياته فتجعله يتوقف، فينظر خلفه ليتمعن فيما جرى وحدث عند وخلال تلك العثرات والكبوات.

وعند هذا الوقوف الذي يتكرر كثيرًا في حياة الإنسان السوي يحدث التأمل في تلك العثرات، والبحث عن أسباب تلك الكبوات، وهو إحساس تلامسه كل نفس إنسانية، وذلك لأن العقل الإنساني السوي قد جُبل على الإلحاح الشديد الذي يمليه على النفس، كي تسترجع صورًا وأحداثًا لما قبل ولما بعد تلك الكبوات والعثرات.

وذلك الإلحاح على النفس هو شيء تجده النفس الإنسانية لتعلقها بمبحث في حياتها مهم جدًا، تحمله معها أينما حلت وحيثما ارتحلت، ألا وهو المبحث عن اكتشاف المجهول ومحاولة رفع وإزالة تلك الجهالة للوصول للحقيقة اليقينية.


ذلك المبحث هو أصل مترسخ في الذات الإنسانية تربط به كل وجودها في هذا العالم، بل إن كثيرًا من مؤسسي العلوم يكون هذا المبحث وهو محاولة الوصول لليقين ونزع الجهالة عن كل المسائل، هو المحفز والدافع الحقيقي لمواصلة وتطور تلك العلوم، ويُقابل ذلك المبحث وهو رفع الغطاء وإزالة الجهالة عن كل ما هو مبهم وغير مبين، مبحث مهم جدًا وهو مبحث الغلط والوقوع فيه بكل المجالات، وأن النفس الإنسانية لا يمكن أن تنفك أو تنفصم عن الوقوع في الغلط.

وعدم استيعاب وفهم هذا المبحث قد أحدث شرخًا وهوة سحيقة في فهم وتصور المسائل والأحداث في كل ما يمت للذات والروح الإنسانية بصلة، فالغلط هو (خلاف الإصابة)، وهو أن تعي بالشيء فلا تعرف وجه الصواب فيه، وهو مجانبة للصواب دون تعمد فهو بمعنى الخطأ عند جماهير أهل اللغة، فالاستعمال اللغوي للغلط، هو تعبير عن حالة تنتاب الغالط أو المخطئ فتفقده التمييز بين الصواب وضده، وإن للغط أسبابًا كثيرة في كل مجال تختص به.

بيد أن أسباب الغلط عند الفقهاء والأصوليين واللغويين والمحدثين والمفسرين في مجملها تتضح في التصور للمسائل والأحداث أو التكييف الصحيح لها، وكذلك عدم معرفة الفروق بين المسائل الدقيقة، وعدم معرفة ظروف النشأة وأصل النزاع، والغفلة عن مقاصد الشريعة أو عدم مراعاة المآلات، والغلط في الاستدلال، وعدم جمع شتات المسائل، وعدم تطبيق القياس الصحيح والغلط في المأخذ اللغوي أو الاصطلاحي، والغلط في إعمال القواعد أو الضوابط الفقهية أو الأصولية أو الغلط في فهم النص، أو في نقل أو فهم كلام أهل العلم.

تلك الأسباب توضحُ لمن تصورها واستوعبها عند ربطها بكل ما ينشأ من غلط في حياتنا المعاصرة سواء الخاصة أم العامة في المناظرات والحوارات الصورةَ المبهمة وغير المبينة.

وإن كثيرًا من الخلافات التي تنشأ في العديد من الوسائل الإعلامية وخصوصًا الحديثة جدًا منها، نجد أن هناك خللًا في فهم معنى الغلط، ويترتب على ذلك نشوء المعاداة والكراهية وإحداث حروب إعلامية، من خلال عدم استيعاب أن النفس الإنسانية يكون في تكوينها أنها تُخطئ وتقع في الغلط، وأن كثيرًا من التصرفات يكون منشأها الغلط، والغلط عند حدوثه في التصرفات الإنسانية لا يمكن المُحاسبة عليه، بل إن ذلك الغلط يُغتفر، ولا يُرتب بناء الأحكام عليه. ومن تتبع تفاصيل وجزئيات الشريعة في جميع أبواب الفقه، علم يقينًا أن الغلط مغتفر وغير مُحاسب عليه، بل إن الخطأ في الأمور الاعتقادية المُجمع عليها بين مذاهب أهل الشريعة قد قررت عدم محاسبة الإنسان عندما يرتكب تصرفًا خارجًا عن أصول الإسلام وعقائده، وذلك مثل ذلك الرجل الذي (أسرف على نفسه، فلما حضره الموتُ أوصى بنيه فقال: إذا أنا مت، فاحرقوني، ثم اسحقوني، ثم اذرُوني في الريح في البحر، فوالله لئن قدَر عليَّ ربي ليعذبني عذابًا ما عذَّبه به أحدًا، قال: ففعلوا ذلك به، فقال للأرض: أدِّي ما أخذتِ، فإذا هو قائم، فقال له: ما حملكَ على ما صنعتَ؟ فقال: خشيتُك يا رب - أو قال: مخافتك - فغفر له بذلك).

فهذا الرجل قد غلط وجهل أن الله يمكن أن يُعيده مرة أُخرى، ومع ذلك فإن الشارع الحكيم لم يؤاخذه بتصرفه ذلك، وذلك ليُقرر أن الخطأ والجهل عند ارتكاب التصرفات لا تُرتب الشريعة عليه أي حكم شرعي.

وكذلك قرر الفقهاء بمسألة مشهورة في الطلاق، بأن طلاق الغضبان الذي غضبه استغلق على عقله، بأنه غير مؤاخذ في تصرفه ذلك، وحافظت الشريعة على بقاء الأسرة والعائلة، وطرحت تصرف ذلك الزوج الذي نطق بكلمة هي في حقيقتها تهدم الأسرة، بيد أن تلك الشريعة قد عززت في مقاصدها عدم محاسبة ذلك التصرف واعتبار القصد الحقيقي المراد من ذلك التصرف دون النظر إلى الغلط الذي وقع فيه، فـ(إياك أن تهمل قصد المتكلم ونيته وعرفه، فتجني عليه وعلى الشريعة، وتنسب إليها ما هي بريئة منه، وتلزم الحالف والمقر والناذر والعاقد ما لم يلزمه الله ورسوله به.

ففقيه النفس يقول: ما أردت؟ ونصف الفقيه يقول: ما قلت؟ .

فاللغو في الأقوال نظير الخطأ والنسيان في الأفعال، وقد رفع الله المؤاخذة (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)، فحياتنا مليئة بالغلط والخطأ، لسنا ملائكة وهذه حقيقة يجب أن يُدركها هذا النشء الجديد حتى لا يفقد توازنه بين تلك الرؤى والتصورات المثالية التي لا تتحقق إلا في الخيال، وبين الحياة الواقعية التي مُلئت بالتراجيديا والمآسي والأحزان.