قبل عدة سنوات حلل المشرف التربوي في إدارة تعليم جدة سعيد عبدالفتاح الغامدي نتائج اختبارات الثانوية العامة في محافظة جدة. ووجد تدنيا في متوسط الدرجات، فمتوسط درجات مواد القسم العلمي كالتالي:

الرياضيات (9 من 30)، اللغة الإنجليزية (15 من 30). وفي الكيمياء والفيزياء (15 من 30)، وفي الأحياء (19 من 30) وفي الجيولوجيا (17 من 30). أما مواد القسم الشرعي فكانت كالتالي: اللغة الإنجليزية (8 من 30) وفي النحو والصرف (14 من 30)، أما البلاغة والنقد فكان المتوسط (15 من 30). ولا يمكن أن نهمل مثل هذه النتائج الضعيفة. فمن منظور الدراسات العالمية عن علاقة التعليم بالاستبعاد الاجتماعي في المجتمعات فإن تدني نتائج الاختبارات المدرسية خلال مرحلة التعليم العام هي أقوى مؤشرات على سوء عاقبة مرحلة الطفولة.

ثم إن التحصيل الدراسي يرتبط ارتباطا قويا بالبطالة والدخل، ويمكن القول بوجه عام إن معدلات البطالة تنخفض بارتفاع مستوى التحصيل الدراسي.


إذن ومن منظور هذه الدراسات، فإن خريجي محافظة جدة في تلك السنة معرضون للخطر في مستقبل حياتهم.

مرة أخرى لنرَ ما يترتب على متوسط درجاتهم في مادة الرياضيات ( 9 من 30).

أوضحت إحدى الدراسات التتبعية أن عدد الذكور ذوي المهارات الحسابية شديدة الانخفاض حصلوا على أجور منخفضة، وأن عددهم بلغ ضعف عدد أفراد الجماعة ذات المهارات الحسابية الأعلى. ومن منظور هذه الدراسة فإن طلاب محافظة جدة في تلك السنة معرضون لخطر البطالة أو تدني مستوى العيش أو الفقر. وهناك أكثر من هذا فإذا ما أخذنا في الاعتبار العلاقة التي تربط بين نتائج الاختبارات التحصيلية والضعف في المهارات الأساسية، واستنادا إلى نتائج دراسات عديدة فإن خريجي تلك السنة معرضون لآثار أخرى، فقد أوضحت الدراسات أن ثلث أصحاب المهارات الأساسية شديدة الضعف لم يستطيعوا تملك المسكن الذي يقيمون فيه، وأن هناك علاقة بين التحصيل الدراسي وتدهور الصحة العامة للفرد.

لكن لماذا أتحدث الآن عن الفاقد التعليمي؟ لأن الطالب الذي التحق بالمدرسة قبل عامين هو الآن في الصف الثالث الابتدائي. ونحن نعرف أن دراسة العامين الدراسيين الأولين كانت عن بعد، بسبب جائحة كورونا. ونعرف أيضا أن المدارس لم تكن تملك أي خبرة في التعلم عن بعد. فضلا عن ذلك فالمعلمون غير مدربين على التدريس من بعد، ومستويات الأسر التعليمية مختلفة، وقد تكون متدنية في القرى والأرياف. هذه الأسباب وغيرها ترجح ضعف اكتساب الطالب مهارات القراءة والكتابة والحساب وما يمكن أن يترتب على هذا الضعف في السنوات المقبلة.

كما أن من المرجح أن يكون طلاب المراحل الأخرى أضعف في المهارات الأساسية والتأسيسية للمواد التي درسوها عن بعد. وعلى حد علمي فإنه لا وزارة التعليم، ولا هيئة تقويم التعليم، ولا أي مؤسسة تربوية أو تعليمية في المملكة أجرت دراسات عن هذه الفجوة في التحصيل الدراسي التي أحدثها التعليم عن بعد. لكن الدراسات التي أجريت في دول أخرى كأمريكا وهولندا مثلا أشارت إلى أن الطالب العادي خسر في التعليم عن بعد نصف عام دراسي من تعلم الرياضيات، وربع عام دراسي في تعلم القراءة. أما الطالب الفقير فقد خسر 70% من العام الدراسي من تعلم القراءة، وأكثر من ذلك من تعلم الرياضيات. فضلا عن ذلك فقد جعلت منصات التعلم عبر الإنترنت الطلاب يقضون وقتا أقل بكثير في التعلم، وأظهرت الدراسات وجود اختلافات في الفاقد التعليمي حسب خلفية أولياء الأمور. والخلاصة هي تأثر الطلاب بشكل أساسي. فقد فقدوا ما كان يمكنهم تعلمه لو كانوا في المدرسة، مما سيؤثر حتما في قدرتهم على التعلم بالسنوات المقبلة.

من منظور الدراسات كورونا لم ينته بالنسبة لوزارة التعليم، بل إن الأمر قد يبدو أصعب مما كان في وقت الجائحة؛ فلا لقاح يمكن أن يعيد إلى الطلاب ما فقدوه من مهارات الحساب والقراءة والكتابة بسبب التعلم عن بعد مما يمكن أن يحصلوا عليه، وهم على مقاعد الدراسة. ولست على علم ما إذا كانت وزارة التعليم أجرت دراسات في مرحلة ما قبل الجائحة عن مستوى تحصيل الطلاب في كل صف من صفوف التعليم العام، لمقارنته بمستوى تحصيل الطلاب بعد الجائحة. ذلك أنني أقدر أن الوزارة وهيئة تقويم التعليم، والمراكز التربوية وإدارات التعليم، وكل جهة لها علاقة بالتعليم. أقول أقدر أنها شرعت فعلا في الدراسات التي تبين مقدار الفاقد التعليمي في العامين الماضيين، وفي وضع البرامج التي تساعد الطلاب على استرداد ما فقدوه.

في الواقع، إن هناك عملا مضنيا في انتظار المديرين والمعلمين. فالطلاب لن يتعلموا المهارات الجديدة المبنية على مهارات لم يتقنوها باعتبارها مطالب تعلم. فهناك مهارات أسياسية لكل صف من الصفوف (الصف الثالث مثلا) لكن هذه المهارات تعتمد على مهارات تأسيسية هي المهارات التي من المفترض أن يتقنها الطالب من دراسته السنوات التي تسبق سنته (الصفان الأول والثاني).

من جهة أخرى قرأت خبرا عن منع المعلمين من وضع الأسئلة أو الاطلاع إذا وجد بين الطلاب من له قرابة من الدرجة الأولى. ولست على علم بالسبب الذي دفع الوزارة إلى هذا المنع. فعبر عشرات السنين كان المعلمون يضعون الأسئلة، وعلى حد علمي فلا مشكلة في ذلك، وقد عملت عشرين سنة مشرفا تربويا، ولم تمر علي ولا قضية واحدة موضوعها تسريب معلم للأسئلة إلى أحد أقربائه. وإذا ما حدث ذلك فهناك إجراءات معينة يعرفها المشرفون والمديرون والمعلمون، وهناك إدارة مخصصة تقترح العقوبات. في الواقع أنا مع مئات المعلمين الذين علقوا على الخبر في حساب تويتر الذي أورد الخبر، وفهموا ذلك على أنه عدم ثقة. فعدم الثقة في المعلم تفقدهم مصداقيتهم عند الطلاب والمديرين لأنهم لم يعطوا الفرصة ليثبتوا ما يتمتعون به من ثقة. سيفقد مدير المدرسة إمكانية أن يثق بأحد المعلمين لأنه لم يخضع لظرف يبين مدى الثقة التي يمكن أن تمنح له. إن انعدام الثقة في المعلم لا يؤثر فقط في جودة المعلومات التي يجب أن يعرفها المدير عن المعلم فقط، بل أكثر من ذلك يضعف الدافع. ولعل وزارة التعليم تدرك أن مشروعا تعليميا فعالا ومحفزا لن يكون في ظل انعدام ثقتها في المعلم، وما أتمناه هو أن تتراجع عن هذا القرار. لقد عملت طويلا في التعليم، ولا أعرف وزارة أكثر من وزارة التعليم إصدارا للأنظمة، فالتعليم مثقل بشبكة هائلة من القوانين، والتعليمات، والتوجيهات، والقواعد، والقرارات، واللوائح، ما يبرر أن ننعته بالنظام التعليمي البيروقراطي؛ فالجزء الأكبر من جميع هذه القرارات هو التحكم المباشر في التعليم، حتى أصبح المعلم فيه مجرد مسمار غير مرئي في شبكة ضخمة من الآلات يقتصر عمله فقط على أن يدخل ويخرج من الفصل.

وإذا لم أخطئ فإن الوزارة تتصور أن التعليم سيتحسن حين تحدد وتقنن وتراقب، وأنه سيتحسن أكثر حين ترى أي خرق لآلتها الضخمة من التعاميم هو الفوضى بعينها. فالطلاب مقيدون والمعلمون مقيدون، والمديرون مقيدون. كل هؤلاء مقيدون بقيود البيروقراطية، وهي في مجملها ليست أكثر من تحكم يحول دون أي جهد إبداعي. هذه الأنظمة والتعليمات إلخ بمضامينها تجعلها أقرب إلى الإيديولوجيا. أتحدث هنا عن مفهوم «سد الذرائع» المعروف في الشرع. والدليل الأحدث هو ما تحدثت عنه أعلاه؛ فمنع المعلمين ليس أكثر من رداء براق، ويحدث وهما هزيلا بالتنظيم، وبحماية الطلاب. هذا المنع الذي يبدو للمراقب الخارجي براقا هو في الواقع يدمر المعلم بطريقة وحشية وعبثية لمجرد أن يشعر المعلم أنه غير أهل للثقة، وحين يشعر أقرباؤه بأن قريبهم المعلم لا تثق فيه وزارة التعليم. إنني أفهم الأنظمة في التعليم والتعليمات والتعاميم إلخ على أنها في المقام الأول تحمي أفضل ما هو موجود في التعليم مما هو أسوأ فيه. ووظيفة هذه الأنظمة خدمية، أي إن أهميتها ليست في ذاتها، فالأنظمة لا تضمن تحسن التعليم، لأن التحسن هو وظيفة المجتمع التعليمي، وليست الأنظمة. وبطبيعة الحال يمكننا أن نتخيل مجتمعا مدرسيا أنظمته جيدة، وتنفذ بشكل تام لكنه التعلم والتعليم فيه رديء.

وفي الوقت ذاته يمكننا تخيل مجتمع مدرسي أنظمته ناقصة ومع ذلك فالتعلم والتعليم فيه يسير بصورة جيدة. إن كثرة الأنظمة في التعليم يهدده بالتدمير؛ فحجر الزاوية في التعليم الجيد، ليست الأنظمة تلو الأنظمة، والتعاميم تلو التعاميم. فهذه تحدد فقط ما يجوز وما يجوز، وهي في الوقت ذاته تجعل التعليم والتعلم إما سهلا أو صعبا.