انشغل بايدن عندما تولى الرئاسة في 2021 بترتيب البيت الأبيض والقضايا الداخلية وتبييض وعوده الانتخابية، ولملمة أمريكا بعد كوفيد 19، ومراجعة السياسة الخارجية، لكن في عام 2022 بدأ شبح الاستحقاق الرئاسي في 2024 يطل برأسه، ووجد أن ورقة الخلاص له أن ينجز صفقة تطبيع السعودية مع إسرائيل، ولكن المشكلة هي في أنه ليس ترمب، وسبق أن تعهد للناخب الذي أوصله للرئاسة أن يجعل السعودية دولة منبوذة، والمشكلة الأكبر أن السعودية التي كان يعهدها أيام كان نائبا لأوباما ليست هي السعودية اليوم، والعلاقات بين البلدين وصلت إلى مفترق طرق، والتفاهمات المتعارف عليها منذ عقود القائمة على الأمن مقابل النفط تغيرت، فالسعودية لم تعد تعتمد في إمداداتها العسكرية على دولة واحدة أو دول غربية محددة، والنفط أصبحت هي ضابط إيقاعه في العالم وليس الغرب كما كان سابقا، بل إن النفط لم يعد هو المورد الوحيد لاقتصادها. وبعد أن قررت الإدارة الأمريكية تقليص التزاماتها تجاه الشرق الأوسط والتركيز على الصين وجدت أن تدهور الأوضاع فيها يشكل خطرا على المصالح الأمريكية، والفراغ الذي تركته ستملؤه الصين، وأن مفاتيح اللعبة باتت بيد السعودية، فبدأت تلوح بالمعطيات الثلاثة لقاء التطبيع: ضمانات أمنية، وتيسير الوصول إلى الأسلحة الأمريكية بمقابل طبعا، والتعاون حول البرنامج النووي السلمي وتخصيب اليورانيوم، وبدأت الرسائل والوفود تترى على الرياض ترافقها تسريبات تعكس أمنيات الإدارة أكثر من قراراتها التي لا بد أن تمر بدهاليز الكونجرس، وبدأت التسريبات من أواخر 2022، ثم في يوليو الماضي أرسل بايدن إلى السعودية مستشاره للأمن القومي جيك سوليفان وبريت ماكغورك المسؤول الكبير في البيت الأبيض المسؤول عن ملف الشرق الأوسط لاستكشاف إمكانية وجود نوع من التفاهم بين أمريكا والسعودية وإسرائيل والفلسطينيين، وكان في جعبتهم اتفاق أمني فضفاض مقابل التطبيع وتقليص العلاقات السعودية الصينية، ولكنهم يعلمون في الوقت نفسه أن السعودية ليس في تفكيرها نقل البندقية من كتف لكتف، ولا استبدال حليف بحليف، وإنما توسع قاعدة حلفائها بحسب مصالحها الوطنية بعيدا عن منطق الحرب الباردة (إن لم تكن معي فأنت ضدي)، واتفاق بكين بين السعودية وإيران الذي قامت به الصين في مارس 2023 أعاد ترتيب الأوراق بأن العدو القديم يمكن أن يكون صديقًا محتملًا، وأن الأمور تتم بوجود الولايات المتحدة إن هي أرادت، وتتم أيضًا بدونها إن بقيت على أسلوبها النمطي، ووصلت هذه الرسالة واضحة إلى واشنطن، وقالها الأمير محمد بن سلمان بشكل مباشر للكاتب الأمريكي غرايم وود في الأتلانتيك عندما سأله: أين هي الإمكانيات اليوم؟ وأردفه بالرد: إنها في السعودية، وإذا كنت تريد تفويتها أعتقد أن الناس الآخرين في الشرق سيكونون سعداء للغاية.
رافق التسريبات الأمريكية تسريبات إسرائيلية، فوزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين أكد في يونيو الماضي اهتمام بلاده بالتقدم في مسألة توقيع اتفاق سلام مع السعودية، كما صدرت تصريحات أخرى من إسرائيل بأن أي اتفاق لن يشمل الفلسطينيين.
لم تدخل السعودية كعادتها في حرب التصريحات والتسريبات ولم تؤكد أو تنفي، ولم تلتزم الصمت مثلما كانت تفعل في الماضي، وكانت تكتفي بالتأكيد على المبادرة العربية التي قدتها في 2002، ولكنها قامت بخطوة مفاجئة أربكت لاعبي شطرنج السياسة المحترفين من الأمريكيين والإسرائيليين وحتى الفلسطينيين والعرب، حين قامت في 12 أغسطس بتعيين أول سفير سعودي في فلسطين، وكان نص تصريح السفير نايف السديري واضحًا ودقيقًا ومصاغا بدقة متناهية، إذ نص على تسليم أوراق اعتماده سفيرًا مفوضًا وفوق العادة لخادم الحرمين الشريفين الشريفين ملك المملكة العربية السعودية لدى دولة فلسطين، وقنصلا عاما للمملكة في القدس (عاصمة دولة فلسطين)، وربما لم تقف وسائل الإعلام كثيرًا عند هذه الجملة، ولكن دوائر صنع القرار ومراكز الأبحاث المرتبطة بها تلقفت ذلك بعناية شديدة وبدأت تبني عليها تحليلاتها.
استمرت التسريبات والتصريحات من الجانبين الأمريكي والإسرائيلي واكتفت السعودية رسميا بهذه الخطوة، وصاحب ذلك ركام من التعليقات والآراء بعضها تخميني وبعضها الآخر (طيران في العجة)، وكثير منها من أقلام وأشخاص تعودوا على تعكير الماء ليصطادوا فيه، وحيرة من بعض الصادقين الذين لا يعرفون مبادئ الأمور ومآلاتها، وانقضى أغسطس، وفي أواخر سبتمبر جاءت مقابلة الأمير محمد بن سلمان في قناة فوكس نيوز، وتحدث عن موقف السعودية من التطبيع، فكانت كعصا موسى التي لقفت ما يسربون ويصرحون، وهذا له حديث آخر.