تقام بين الحين والآخر في المملكة عروض مسرحية على أعمال مسرحية محلية أغلبها إن لم يكن كلها من النوع الهزلي الخفيف الذي يهدف إلى معالجة بعض الأوضاع الاجتماعية بأسلوب ساخر، وتستقطب هذه العروض جمعا كبيرا من المشاهدين، ويحظى بعضها بجمهور أوسع وأكبر حينما يجد طريقة على الشاشة الصغيرة، ترى ما نصيب هذه الأعمال من الفن المسرحي، وكيف تبنى لدينا تقاليد مسرحية ذات مستوى رفيع؟

في البداية ينبغي أن نتذكر أن العمل المسرحي ربما يكون أصعب الأعمال الإبداعية، إنه عمل جماعي يعتمد وجوده على جهود أفراد عديدين، فهناك كاتب النص والمخرج والممثل والمنتج وعامل الإضاءة ومختص الديكور ومختص الأزياء... إلخ، وأهم هذه العناصر بطبيعة الحال النص نفسه، وهو الذي سنقصر عليه الحديث.

النص المسرحي عمل إبداعي يتطلب موهبة من نوع خاص، ويحتاج في إجادته إلى تدريب طويل وصقل مستمر، فليس من السهل على الكاتب، أي كاتب، أن يخرج من ذاته ويتقمص شخصيات متعددة مختلفة تنطق وتفكر وتخطط وتعيش حياتها بمختلف أشكالها ومستوياتها في عالم شبيه بعالم الواقع في منطقه وقوانينه، لكنه لا يخضع بالضرورة لذلك المنطق وتلك القوانين، وتزداد الصعوبة حينما يستعمل الكاتب الأسلوب الشعري في الحوار لأنه يحتاج حينئذ إلى موهبة أخرى، وهي موهبة الإبداع الشعري تلك التي يطوعها للتعبير عن مكنونات تلك الشخصيات المتعددة المختلفة بالأسلوب الشعري الذي يناسب كل واحدة منها في مختلف ظروفها النفسية والاجتماعية.

أما إذا كان ملتزما برسالة معينة أو أيديولوجية معينة، فإن الصعوبة تزداد أكثر فأكثر، بحيث يمكن أن ينكسر من وطأتها البناء الفني، لأن الكاتب في هذه الحالة ولكي يبقى على السمة الجمالية في عمله، لا بد له أن يجعل تلك الرسالة أو الأيديولوجية جزءا لا يتجزأ من النسيج الداخلي للعمل، ومخزونا من مخزوناته الكامنة، بحيث يكون بروزها على سطحه مرتبطا بمنطق العمل من وجهة، وبمقدار ما يتوقعه المشاهد من جدية وعمق في ذلك العمل، وبالتالي بدرجة وعيه الحضاري.

ولا تختلف الكوميديا الناضجة عن التراجيديا الناضجة في الأسلوب الفكري والفني مع اختلافهما الطبيعي في طريقه المعالجة، وفي زاوية الرؤية، لهذا فإن اختلال التوازن داخل البناء الفني يؤدي بالكوميديا إلى «الفارس» أي المسرحية الهزلية الخفيفة، وبالتراجيديا إلى الميلودراما. هذان النوعان الأخيران لهما بلا شك نظارتهما وعشاقهما إلا أنهما يزدهران في مجتمعات حديثة العهد بالفن المسرحي، لأنهما يخاطبان العواطف مباشرة ويرسمان صورة مبسطة للتجربة الإنسانية المعقدة.

ليس غريبا إذن أن تزدهر لدنيا الميلودراما والفارس كما ازدهرت وتزدهر في باقي البلاد العربية التي سبقتنا إلى هذا الفن العريق، وهو ما نلاحظه في كثير من العروض المسرحية التي تقدم لنا في التلفزيون، وليس هذا بعيب لو اقتصر فقط على مرحلة البداية في طريق الإبداع، نعم الموهبة هي البداية، لكنها لا تكفي، فالإبداع المسرحي يحتاج بجانبها إلى الدربة والدراسة والمتابعة، بل التفاني، ويمكن أن تكون المرحلة الابتدائية هي بداية هذا الطريق حين تبدأ الموهبة في التفتح ثم تظهر في المرحلتين التاليتين إلى أن يصل الطالب إلى المرحلة الجامعية، حيث يتم الصقل والاختبار في رحاب التخصص. والموضوعات التاريخية من أفضل الطرق للوصول إلى فن مسرحي مكتمل ومتميز، فبالإضافة إلى توظيف التراث التاريخي اعتزازا به وتخليدا له توفر تلك الموضوعات الجانب الفكري الأيديولوجي المتفق على صدقه وأهميته، وبذلك ينصرف هم الكاتب إلى الإجادة الفنية، وهو تحدٍّ ينبغي أن يقابله بإصرار وإيمان، لأنه سيوظف ذلك التراث توظيفا جماليا.

أما القول بصعوبة هذه الطريقة بسبب ما يكتنفها من معوقات لها علاقة بالتقاليد الدينية مثل صعوبة ظهور العنصر النسائي فأمر مبالغ فيه، لأن الكاتب الجيد يستطيع أن يجعل ذلك العنصر حاضرا دون أن يظهر على خشبة المسرح، بل يمكنه أن يجعله محور الصراع، وينبغي ألا ننسى أبدا أن المؤلف المسرحي لا يكتب تاريخا، وإنما يجسم لنا رؤيته لذلك التاريخ وتفسيره الإنساني للأحداث، أي أنه يختار من الحوادث التاريخية القدر الذي يجسم تلك الرؤية وذلك التفسير، مما يجعله في حل من الارتباط بالتسلسل التاريخي.

فإذا كانت البداية سليمة وتكرست جهود الكاتب بمساعدة الأجهزة الثقافية ذات العلاقة نحو الإجادة الفنية المبنية على الدراسة المتعمقة المتجددة لفنية المسرح وأساليبه، مع أخذ ظروفنا المحلية بعين الاعتبار، أمكن لنا مستقبلا إيجاد رصيد لا بأس به من الإبداعات المسرحية التي لا تقل أهمية وجمالا عن الإبداعات المعاصرة.

* قراءة ثانية

* صدر عام 2000