يسيطر الغبار وتبعاته هذه الأيام على حديث المجالس والعوائل والمنتديات في المملكة وسترى أن أكثر النقاط تجاذبا داخل أفراد الأسرة (الوالدان والطلاب) تدور حول هل "فيه دراسة بكره وإلا لا"؟.. وهل صدر بيان من وزارة التربية والتعليم بهذا الخصوص؟!

- "لا لم يصدر شيء.. انتظروا شوي"!

- "يمكن يجي خبر بس في الليل"!

وهكذا يبقى خبر تعليق الدراسة معلقا رغم تواتر الإشاعات والأخبار غير الموثوقه عبر الوسائط والتغريدات.. ويستمر الأمر محط أخذ ورد، وتسهر الأسرة جراها وتختصم حتى يهجع الطلاب على بصيص أمل ولو في أول الصباح.

إن من المحزن أن نرى حجم انتظار الأبناء والبنات وفرحهم بتعليق الدراسة والسعي إلى جعلها ورقة ضغط شعبية ترضخ لها الوزارة بلا حاجة غالبا وإنما تأتي على شكل هبة أو أعطية أو مكرمة.

إن هذا الفرح الطفولي الطلابي بأي عذر يحول دون الانتظام في الدراسة إنما يعبر عن هروب من مكروه وغير مرغوب، بما يعني أن الطالب لا يجد الأجواء المناسبة التي تحفزه للذهاب مشتاقا للمدرسة، وأنا أعلم أن التفلت من الجبري والقسري وكسر الاعتياد والروتين نزعة بشرية لكنها مع طلابنا حالة متفاقمة.

طبيعي أن تفرح لغياب طارئ وإجازة مفاجئة لمرة أو مرتين وأخرى ثالثة.. لكن طلابنا صاروا يستمرئون الغياب ويبحثون عن أي حجة ويلاحقون الأرصاد وحالات الطقس يستقرئون القادم بأمل وجود سحابة عابرة.. أو عاصفة قادمة.. أو عارض عارض.

كنا نذهب للمدرسة الابتدائية قبل أربعين عاما سيرا على الأقدام في الأيام الشتوية وبردها القارس، وكان يصدف أحيانا أن تمطر السماء ونحن نسير في طريقنا إلى المدرسة فتبتل ثيابنا الشتوية وتمتلئ بالماء وتصبح أثقل وزنا وندخل الفصل ننتفض ونتقرفص من شدة البرد المثقل برطوبة الثياب.

كانت الدراسة في (أيامنا) مستمرة الوتيرة منضبطة المسار في درجات الحرارة الصغرى والكبرى وفي الحر والقر.. وفي حالات الطقس الصافي والمغبر وفي أيام الجدب والمطر لم نكن ننتظر غالبا إلا العطلة الصيفية الكبيرة، أما الآن فيكاد الطلاب يقطعون الصلة بالمدرسة لكثرة عطلاتهم الرسمية والطارئة.. القصيرة والطويلة.. في الأعياد وفي منتصف العام وفي الربيع إضافة إلى عطل الطوارئ الجوية.

كنا نخاف من لوم وتقريع المعلمين لو أكثرنا من الغياب حتى للضرورات الطبية وجاء الزمن الذي صار فيه المعلمون يخافون من طلابهم ولا يجرؤون على معاقبتهم إن تأخروا أو قصروا أو غابوا، فقد انقلبت الآية وصار التبجيل والتوقير حقا للطالب بعدما كان حقا للمعلم، كانوا يحقنوننا ويحفظوننا قول الشاعر:

قم للمعلم وفه التبجيلا

كاد المعلم أن يكون رسولا

لكن في هذا الزمن صار المدرس نفسه يتذمر من فقد المهابة والتقدير لدى الطلاب، وذلك طبعا بتعضيد من وزارة التربية والتعليم وضغط من أولياء أمور الطلاب وخاصة الذين يعلمون أبناءهم في المدارس الأهلية وعلى حسابهم الخاص بنحو جعل المدرسة الأهليه (التجارية) تحرص على رضا الطالب ورضا أهله حتى لا يتذمر الطالب ويسحب الملف مستقبلا إلى مدرسة أخرى تجارية ربحية، ولهذا صار التقدير والتوقير من مكتسبات الطلاب ومن حقوقهم على المعلمين حتى صار الأولى أن أغير بيت الشعر السابق بتصرف ليصبح هكذا:

خل المعلم يطلب التأجيلا

لعيالنا إن يرغبوا التعطيلا

وهذا هو حال الفوضى التي صارت ملموسة في مسألة تعليق الدراسة لأي سبب كونها كانت من صلاحيات وزارة التربية والتعليم، ثم نزولا صارت من صلاحيات إدارة التربية والتعليم، ثم تدرجت لتصبح من صلاحيات مديري المدارس، بحيث صرت ترى في المدينة نفسها مدارس معطلة وأخرى مستمرة، ثم مع هذه المراوحة صار الأمر من حق الطلاب فبعضهم يغيب وبعضهم يحضر.. بعضهم يتم تبليغهم برسائل جواله وبعضهم لم يتـم تبليغه لكن بواب المدرسة يخبرهم إذا أقبلوا للمدرسة وهم لا يعلمون.

.. لست ممن يميلون إلى الحنين للماضي والتوله ومدح السابق وذم الحاضر، ولست مع تلاوم الأجيال، لعلمي أن كل أناس خلقوا لزمان غير زمان من قبلهم.. لكنني في هذه الجزئية حريص على غرس الجدية والحزم وتقدير التعليم لدى الأبناء من الطلاب والطالبات وتعويدهم على الانضباط والإخلاص بما يكفل لنا نشأة سليمة لجيل متحمس ومتطلع لخدمة هذه الأرض وأهلها بكل ما يليق بمواطن تجاه وطنه.