نحن اليوم مدمنون، بل مستَعْبَدون لرفاهية الحياة، لا لضروراتها! هل قابلت شخصا مدمنا على تناول الخس أو البندورة؟ أو مدمنا على أسرته؟ أو مدمنا على الدراسة؟ رغم أن أفضل الأشياء في الحياة تأتي بلا سعر أو قيود، لكن ما يروق لنا ولرغباتنا التي تدفعنا إليها دفعا، هو كل ما لا يُثري أو يضيف إلى ذواتنا، وما يقدّمه من ناحية القيمة أقل بكثير مما يكون ظاهرا.

هل هي لحظات، سويعات، أيام... ثم ماذا؟ أقل بكثير مما نستحقه في هذه الحياة!

يمكن تعريف الإدمان بعبارات بسيطة، كحالة من الاعتماد على عادة، لدرجة أنه يسبب مشكلات نفسية وجسدية، قد يصل تأثيرها إلى مرحلة الخطورة، فالشخص لا يختار أن يكون مدمنا، بمعنى أنه لا يستيقظ ويقول «دعني أدمن على هذه المادة أو تلك، أو هذا السلوك أو ذاك. الإدمان هو أحد أعراض المشكلات الأعمق مثل الاكتئاب والشعور بالوحدة، ويمكن أن يعبّر عن نفسه بأشكال مختلفة، والإدمان أيضا يأتي بعد فترة من التعود والتعرض المكثف، بحيث يصبح الفرد تدريجيّا تحت رحمته، ولا يستطيع الاستغناء عنه، وهذا ما يفسر إدمان الأطفال على الرائي أو الأجهزة الذكية، مثلا.

بالنسبة للبعض -وفي كل صباح- بدلا من شكر الله تعالى على نعمة الحياة، يمدون أيديهم إلى أجهزتهم الذكية!، أول ما يجول في خواطرهم: لِننظر ما يحمله لنا هذا الجهاز من مفاجآت، ما الأحداث التي تمت خلال فترة النوم؟، ما الذي فات؟ وما التوقعات؟

يجب، وضروري، ومن الأهمية، الاطلاع على الأحداث المهمة التي حصلت في العالم الافتراضي، خلال الانشغال بعالم الأحلام! وماذا يجدون؟

العالم كما هو ولم يتغير أو يتأثر بغياب سويعات من النوم، رسائل على الإيميل على النمط نفسه: تبليغ، دعوة، تنبيه، دعاية، أحداث محلية وعالمية هي نفسها، لكن قد يكون تغيّر المكان أو الحدّة، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي الكلام نفسه، والنقاش نفسه، والمقاطع نفسها، لكن ربما بنكهات جديدة.

الذي أريد أن أوضحه هنا، أن التوقّع يثير الفرد أكثر مما يجده بالفعل، ولهذا يستمر الإدمان، ليس بسبب ما يجده، ولكن بسبب لذة الشعور بما يتوقع أن يجده!.

رمضان مقبل علينا، جعله الله شهر خير وبركة على الجميع، إنه شهر الحرية؛ ليس شهرا للتفكير في الحرية بل في احتضانها، بأن نكون أحرارا فعلا، فلنبحث في ذواتنا عما يقيّدنا ويستعبدنا لدرجة الإدمان! ماذا لو اتخذنا قرارا بأن نبتعد عن أجهزتنا أو على الأقل البرامج التي عليها وعلى تنوعها؟

ثلاثون يوما يمكن أن نبحث خلالها في اتجاه مختلف، بدلا من أن نرخي رقابنا، نرفعها، وبدلا من أن تُسيّرنا، نتحكم نحن فيها!

هل الإدمان فقط على الأجهزة الذكية؟ هناك أنواع كثيرة من الإدمان! كل ما على الفرد أن يراجع داخله، ويخرج ورقة وقلما، ويكتب ما يؤمن تماما أنه مقيد له وتحت سيطرته.

نعم، قد يبدو الأمر صعبا أو حتى جنونيا في الأيام العادية، ولكن مع الصيام والقوة التي تأتينا خلاله، نستطيع، إن عقدنا العزم، على البدء والأعين على النية في الاستمرار إلى ما بعد رمضان.

بالطبع، هنا أنا لا أتحدث عن إدمان المخدرات أو المسكرات أو الميسِر «اللهم ارفع عمن ابتُلي بها»، فتلك حالات تستدعي اختصاصيين وعلاجا طويلا. الإدمان الذي أتحدث عنه أنواع أخرى، فهنالك من يدمن على أخبار الناس، ومن يدمن على البحث عن الفضائح أو المصائب أو الكوارث، ومن يدمن على تصفح الإنترنت، ومن يدمن على الألعاب الإلكترونية، ومن يدمن على شبكات التواصل الاجتماعي، ومن يدمن على السجائر، ومن يدمن على المعسّل، ومن يدمن على الأسواق، ومن يدمن على الشراء، ومن يدمن على الرياضة، ومن يدمن على برامج الحِمية، ومن يدمن على الحب، ومن يدمن على المسلسلات، ومن يدمن على الغضب، ومن يدمن على الاستهزاء بغيره، ومن يدمن على الثرثرة، ومن يدمن على السُكَّر، ومن يدمن على الحلويات، ومن يدمن على الولائم ضيفا أو مضيفا، ومن يدمن على الأدوية، ومن يدمن على العمل، والقائمة تطول وتطول.

حدد نوع إدمانك، واتخذ من شهر الصّيام فرصة ذهبيّة، وتعامل معه، وإن لم تتمكن من الانقطاع تماما، فعلى الأقل قلّل من تأثيره وانشغالك به.

لديك قوة الإرادة بأن تمتنع عن الطعام والشراب رغم المغريات الكثيرة التي حولك، خاصة في هذا الشهر الفضيل، إذًا لديك القدرة، فإن وجدت القدرة بقي القرار ليس إلّا.

نحن في رمضان نتحرر من ذنوبنا، بمعنى أننا هنا نستعرضها، نخرجها من دواخلنا، لا ننكرها أو نتهرب من المسؤولية، ونعترف بها أمام الله ولأنفسنا، والأمر محصور بين الفرد وربه، فنطلب المغفرة من رب العالمين، طمعا في كرمه وحلمه وعطائه.

وهنا، لا أقول إن ما ندمنه -مما ذكرته- هو بالضرورة ذنوب، ولكن طالما أننا نراجع أنفسنا ونحاسبها، فمن باب أولى أن نراجع تصرفاتنا ونحللها، ونتعرف على مدى تأثيرها ليس فقط على حياتنا، بل على حياة مَن حولنا.

وإن انقضى رمضان ونحن قد تخلصنا على الأقل من واحدة أو أكثر مما ندمن عليه، أو ربما خففنا من تأثيرات كثير منها، أصبحنا كما قال محمود درويش: «أنت الآن حرٌ وحرٌ وحرٌ».