في عام 2003، جمعتني الصدفة بالشاعر والناقد الأردني الدكتور راشد عيسى، في «عصرية» جميلة بنادي حائل الأدبي، الذي كان يومها خاليا من المرتادين، وأتذكر أن حديثا ذا شجون دار بيننا حول «فيروز» و«الرحابنة» و«سعيد عقل»، خلال أغنية «غنيتُ مكة»، كنت حينها -وما زلت- معجبا بهذا الثلاثي المبدع على مستوى الصوت واللحن والكلمة، لكن ما أدهشني هو قول محاوري بأن عقل كان يهجو أهل مكة والمسلمين ولم يمدحهم!.

قلت له كيف؟ فشرح لي أن كلمة «غنيتُ» تأتي بمعنى «هجوتُ»، ومفردة «الصيدَ» جمع «أصيد» وهو البعير الأجرب. وقال إن هذا جاء بعد دراسته للقصيدة دراسة نقدية، لكني اليوم لم أجد أثرا لهذه الدراسة، ولا أعرف إن كان نشرها أم لا.

وفي عام 2015 نشر عبدالرحمن -ابن الأديب الراحل عبدالله نور- مقالا في صحيفة «الحياة» إثر نقاش حول القصيدة بين مستخدمي موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»، أشار فيه أحدهم إلى أنه قرأ قبل 30 عاما مقالة لوالد الكاتب «عبدالله نور»، يذكر فيها أن سعيد عقل كان يهجو ويعرّض بأهل مكة ولم يكن يمدحهم!، وطرح الكاتب تساؤلات حول مقاصد الشاعر المضمرة، ناصحا القارئ بألا يثق كثيرا في السياق الشعري بظاهر النص، وعليه الغوص في باطن الحروف والكلمات داخل السياق.

يبدو أن هذه القصة لن تتوقف حتى يخرج سعيد عقل من قبره وينفي أو يثبت هذه التهمة!، ومن المعروف أن سعيد عقل موغل في نرجسيته، لكنه من أهم الشعراء الذين كتبوا القصيدة العربية الفصحى والعامية، وهو يحب الشعر بقدر حبه لأمه، ‏إذ شاهدت له حوارا متلفزا قبل موته يقول فيه «أنا بعمر التسعين، لكنني حين أصعد المنبر لإلقاء قصيدة أشعر وكأنني بعمر العشرين»!.

من المعروف أيضا عن سعيد عقل، تأييده صراحة لاتخاذ اللهجات العربية بديلة عن الفصحى، لاعتقاده بأن اللغة العربية توقفت حين لم تعد محكية كما حصل في أوروبا. فاللغة غير المحكية تعدّ لغة ميتة.

وربما يكون سعيد عقل محقا في ذلك، فاللغة كائن حيّ متى ما أشعرناه بالحياة كان مطواعا أكثر على مستوى الإبداع والصناعة والابتكار!.

وبالعودة إلى قصيدة «غنيت مكة» فقد نشرها باسمه المستعار «سناء الرديني»، وبعد اشتهار القصيدة وشيوعها أعلن أنه كاتبها.

وعلى أي حال، من غير المناسب حمل تلك القصيدة الجميلة حرفا ولحنا وأداء ومعنى إلى مناطق الأيديولوجيا وصراعاتها، لا سيما أن سعيد عقل قال صراحة إنه معجب بالسعودية وبشخصية‫ الملك عبدالعزيز، الذي عاش في أيامه ويعرف عنه كثيرا، يقول «عبدالعزيز يعجبني لأنه ابتكر سياسة بين بلاده وبين سائر بلدان المنطقة قائمة على ما يلي: إذا قدرت أن أخدم بلدا من بلدان منطقتي تحركت فخدمت، وإن لم أقدر فما تعرضت لهذا البلد لا بخير ولا بشر، ويبدو أن أبناءه الذين حكموا بعده تصرفوا تقريبا مثل هذا التصرف، إذا قدروا أن يخدموا لبنان تحركوا، وإن لم يقدروا على خدمة لبنان ما ضرّوه وما تعرضوا له بشيء، ويا ليت بقية البلدان في منطقتنا تتصرف تصرف عبدالعزيز، ويا ليت سياسيي هذه المنطقة يأخذون عنه هذا التصرف».

ولم يكتفِ سعيد عقل بهذا الإعجاب، بل دعا إلى انبثاق لغة سعودية، يقول: «لو كنت سعوديا -وهو شرف لي- لدعوت إلى أخذ اللغة السعودية مكان اللغة العربية».

ولو كان سعيد عقل يحمل قناعة غير هذه لرأيناه يصرّح بها، خاصة في آخر عمره الذي جاوز 100 سنة، إذ عُرف عنه إقدامه على أشياء غير متوقعة، ومن ذلك دعوته إلى استبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني، وتطبيقه ذلك في مجموعته الشعرية بالعاميّة «يارا»، إلا أنه لم يكرر هذه التجربة لاحقا.

بعد رحيل سعيد عقل نشرت صحيفة «الحياة الجديدة» أن محمود درويش سئل ذات مرة عن رأيه في شعر سعيد عقل، فأجاب معبرا عن رأيه بتجرد وموضوعية، وعندما نقل الصحفيون إلى سعيد عقل هذا الرأي، كان جوابه سيلا من الشتائم الموجهة إلى درويش وياسر عرفات، واصفا إياهما بـ«العدو الفلسطيني». وكان سعيد عقل أيّد صراحة العدوان الإسرائيلي بمبرر تنظيف لبنان من آخر فلسطيني!.

ويبدو أن هذا الموقف هو ما ضاعف من خصوم سعيد عقل، فصراحته ومباشرته في الحب والكراهية، والمدائح والشتائم، تجعله يقول ما يريد قوله تصريحا لا تلميحا أو تعريضا، فهو يحب حين يحب، ويعجب حين يعجب، ويكره حين يكره.