عجيبة هي النفس البشرية في أحوالها، تستحيل الإحاطة بأسرارها، ويصعب على الإنسان سبر أغوارها، إنها تشبه المحيط، حين تقف على شاطئه تقول لنفسك: يا له من محيط كبير، وإذا ما أبحرت بعيدا فيه وشاهدت كيف يغرقك رذاذ أمواجه المتلاطمة، وتأخذك فتنة زرقة مياهه، وتختلط مشاعرك فوق سطحه خوفا وسعادة، أدركت أن كلمة (كبير) ليست كافية لوصف مساحته الهائلة وأعماقه المجهولة، لتعود إلى ذاتك حائرا متسائلا: أي كلمات يمكنها أن تصف كل هذه المساحة العظيمة التي تملأ الأرض، وتدهش الحواس وتربكها؟.

يخوض البشر في كل الدنيا معارك لا تنتهي، بل إن نهاياتها بدايات جديدة لمعارك أخرى، بدأَت معارك الإنسان الخفية منذ زمن أبينا آدم وأمنا حواء -عليهما السلام- في جنة الخلد، عندما وسوس إليهما الشيطان، وزيّن لهما الأكل من الشجرة، فخالفا بفعلهما أمر الله تعالى، حيث أمرهما ألا يقربا الشجرة، لقد توهّم أبوانا -في معركة خفية مع النفس- أن كلام الشيطان نصيحة ثمينة، ووصفة سحرية للمُلك الذي لا يَبْلى، فكانت نتيجة هذه المعركة خروجهما من الجنة وهبوطهما إلى الأرض.

وأنت أيها الإنسان، يا ابن آدم وحواء، تمضي على درب أبويك، تخوض معاركك الخفية مع نفْسك، تحارب تارة بأسلحة متعددة، وتارة تقاتل بيديك العاريتين، مستجمعا ما استطعت مِن قُواك، لا تكاد تنتهي من معركة، إلا وتلِج في أخرى، حروب شرسة لا تتوقف رحاها، ولا تنطفئ نارها المستعرة، حتى أصبحت هدفا لنِبال الزمن وغيره، وما أجمل ما قاله «المتنبي» في هذا المعنى:

رَماني الدهرُ بِالأَرْزاءِ حَتّى

فُؤادي في غِشاءٍ مِن نِبالِ

فَصِرتُ إِذا أَصابَتني سِهامٌ

تَكَسّرَتِ النِّصالُ عَلى النِّصالِ

إذا ذكرت المعارك ذكرت معها إحدى أهم صفات المقاتِل، إنها الشجاعة، ولا قيمة للشجاعة التي تدفع المرء لخوض معارك فيها هلاكه، أو لا غنيمة حقيقية ترتجى منها، من هنا بات لزاما أن ترافق الحكمة الشجاعة في كل معركة ذاتية أو خارجية، مما يقلل الخسائر بأنواعها، ويحفظ ميزان القوة معتدلا قَدر الإمكان، وعند «المتنبي» -أيضا- شاهِد على ما أقول، وأستحضر هنا بيته الجميل:

وكلُّ شَجاعَةٍ في المَرْءِ تُغْني

ولا مِثلَ الشّجاعَةِ في الحَكيمِ

يحرص العاقل على تحاشي المعارك، ويأخذ برأي ذوي العقول الراجحة، قبل أن يضع قدمه في أرض المعركة، وليس لزاما على الحصيف أن يُثْبت شجاعته باستمرار، ولا يعيبه أن ينسحب من معركة غير متكافئة، أو أخرى تغيب عنها أخلاق الفرسان، ولا تُقاس شجاعة أحدهم بعدد المعارك التي ربحها، مع افتراض أننا لا نملك السيطرة على ظروف معركة ما أو أسبابها، وكم من معركة جاءت نتيجتها بالخسارة، لكنها أهدت لفارسها دروسا ثمينة، ودفعته إلى استدراك ما فاته في معارك سابقة، ومن قال بأن دروس الحياة مجانية دائما؟

يا رفيق الحرف، ليس بؤسا أن تكون لك معاركك الخفية التي تتصارع فيها مع ذاتك، تهدأ حروبك حينا، وتعود للنشوب في أوقات متفاوتة، تفقد فيها الخسائر، ثم تصنع فرصا جديدة لتعويض ما فقد منك، فمعظمنا ذاك الشخص المحارِب، البؤس أن تعيش حياة يملؤها الجمود والرتابة، وتغلق أبواب زمنك وأمنياتك عند لحظة لا تتجاوزها، وتتوقف نوافذ أيامك عن الحركة، فلا هواء يتجدد في حجرات الذات، ولا أصوات تسمعها من الخارج، وتشعر معها باستمرار الحياة، انهض اليوم، واحسم معاركك المؤجلة بحكمة وشجاعة.