في فرنسا، مهد التنوير، الذي كان أول ثماره ظهور نابليون بونابرت -القائد الذي لا يهزم- لم يتوقف أحد أمام مفارقة عجيبة، أن التنوير الفرنسي بدأ بإعلان حقوق الإنسان وانتهى بحملة استعمارية خاسرة عسكريا، فضلا على فشلها الذريع في كل أهدافها المعلنة، وأول ضحايا هذه الحملة الخاسرة هو أنف أبي الهول المسكين، هذا التمثال البريء الذي قضى عمره رابضا في صحراء الجيزة آمنا مطمئنا، حتى جاءت بشائر التنوير البونابرتية، واقتلعت أنفه الجميل دون أي جريرة ارتكبها في حق أحد.

ومن العجائب، ما يُعلَّم للتلاميذ في المدارس الفرنسية -المنتشرة في مصر آنذاك- إذ تصور الحملة لهؤلاء التلاميذ أنها ليست سوى بعثة علمية وثقافية وليست حملة عسكرية، غرضها هو نشر مبادئ الديمقراطية والحرية والمساواة والإخاء، ولتحقيق هذا الهدف السامي كان أنف أبي الهول هو الثمن.

فالجنود الفرنسيون، وكي ينشروا هذه المبادئ، يجب أن يتدربوا على فنون الرماية، فكان أنف أبي الهول مكانا مناسبا للتدريب على إصابة الهدف، وأبو الهول عاش حياته الطويلة حارسا أسطوريا في حماية كنوز ومجوهرات مصر الثمينة، فلا أظنه سيبخل على مصر اليوم بأنفه مقابل الحصول على كنوز التنوير الثمينة.

لم تكن حملة نابليون على مصر مجرد مغامرة غير مدروسة النتائج، ومدفوعة بظروف طارئة يأتي على رأسها الصراع الفرنسي البريطاني على مصر، وإنما كانت حركة بارعة ذات أهداف إستراتيجية مخطط لها تخطيطا بعيد المدى، تهدف إلى جعل مصر مركزا للإمبراطورية الفرنسية في الشرق، وتعبيرا عن رغبة الرأسمالية الفرنسية في السيطرة على أسواق الشرق.

لذلك، جاء نابليون إلى مصر محمولا بآمال وطموحات عريضة، ومصمما على أن يخلق في مصر مجتمعا تسوده شعارات التنوير، فكان يرافقه على السفينة المتوجهة إلى مصر، فرقة من العلماء والمثقفين والفنانين وراقصات بالية وممثلي مسرح العرائس وصانعي خمور، وكل هذا من متطلبات التنوير على الطريقة الفرنسية. ولا ننسى المتطلب الأهم، وهو مجموعة من المدافع والأسلحة الحديثة لتحطيم أنف أبي الهول، وكسر كبريائه الأسطوري.

وعندما طرح نابليون بيانه الأول إلى المصريين، ولأن نابليون هو ابن عصر التنوير الفرنسي، فقد كان بيانه داعيا إلى الحرية والمساواة، مجسّدا بذلك شعارات التنوير التي نادى بها فولتير، وجان جاك روسو، ومنتسكيو، وبقية فلاسفة التنوير، وكان بيانه لا يخلو في بعض أجزائه مما يعرف بـ«الدعاية السياسة» بمفهومنا المعاصر، بل إن هناك أجزاء لا تخلو من الدجل، عندما تظاهر بالإسلام ومحبة المسلمين، وأن غرض حملته هو تطهير البلاد من المماليك والإنجليز، وتحطيم أنفة وكبرياء أبي الهول عن طريق دك أنفه دكا بالمدافع الحديثة.

إن قتل أسطورة أبي الهول الحارس الأبدي للأهرامات -عن طريق تحطيم مصدر الأنفة لديه- تستلزم أن يواجه بأسطورة مشابهة كأسطورة نابليون بونابرت، أول مخاضات الثورة الفرنسية وأول نتائج التنوير الملازم لها، نابليون القائد الذي ينزل المعارك، فيتساقط ضحايا العدو من حوله، بينما لا تمسه طلقة واحدة، بسبب العقد الذي أبرمه مع أحد الشياطين، كما يصفه بلزاك على لسان إحدى شخصياته في رواية «طبيب الأرياف».

وبعد انسحابه من مصر، ورحيل راقصات البالية الجميلات، ذوات القوام الرشيق والمرن من كل الأقطار العربية، لم تكن هزيمة القائد الذي لا يهزم أمرا مألوفا. فالهزيمة كانت بسبب الطاعون الذي حصد جند نابليون، فهذا لأن الساحر «مودي» هو من أطلق الطاعون الذي هزمه، فالقوى الخارقة هي الوحيدة القادرة على هزيمته، والإيمان بالقوى الخارقة كان يؤمن بها الشعب الفرنسي المفتون بقائده، الشعب الذي عاصر حقبة التنوير والعقلانية، وهذه القصص الأسطورية حول قدرات وعجائب نابليون لا يصدقها أو يقصها إلا عقل ساذج وبدائي.

إن قدرات نابليون الخارقة شاعت بكثرة عند الأدباء والشعراء الفرنسيين، لعل أبرزها قصائد هيجو التي حوّلت شخصية نابليون البشرية إلى شخصية أسطورية خارجة عن نطاق البشر، وبسبب قدراته العجيبة استطاع أن يجعل فرنسا تسيطر على العالم، وهزيمته في روسيا ومصر لم تكن إلا بفعل السحر والطاعون الذي أطلقه الساحر «مودي».

وأخيرا، نؤكد أن أسطورة أبي الهول الشرقية تغلبت على أسطورة نابليون الفرنسية، وتغلبت سيوف المماليك البدائية على مدافع نابليون الحديثة، وانحسر رقص الباليه الفرنسي ولم يجد له مكانا في وجدان الشعوب العربية، واستمر أبو الهول رمزا لأرض الكنانة رغم أنفه الجريح.